لا يُمكن تصوّر دولة قويّة منسجمة ومتطوّرة دون وجود مجتمع متماسك ومتلاحم ومتقدّم، أو دون إنسان (مجتمع) متعلّم وفاهم، يحبّ الحياة والأرض، ويسعى لعمارتها ونشر الأمن والخير في ربوعها!
وهنالك تصاهر عميق بين الإنسان والمجتمع، لأنّ المجتمع هو عبارة عن مجاميع من الناس يتعايشون في مكان ما، والإنسان الصالح المعطاء الباني يؤسّس، مع غيره، مجتمعا صالحا ورصينا وعامرا، والعكس صحيح تماما، ولهذا اهتمّ علماء الاجتماع والسياسة والأديان بدراسة المجتمعات لأنّها أساس نهضة الأمم!
ويعاني المجتمع العراقيّ منذ سنوات من تركيبة معضلات متنوّعة، وهي إشكاليّات لم تكن سابقا موجودة في المجتمع بهذا الحجم والبشاعة ولكنّها، ومع الفوضى السياسيّة والأمنيّة والقانونيّة، صارت حالة مُتنامية؛ وصرنا نسمع بحوادث منزليّة ومجتمعيّة بشعة في كلّ ساعة تقريبا، والعجيب أنّ الناس يمرّون عليها مرور الكرام الذين لا يعنيهم الأمر!
فكيف يمكن تفسير تنامي هذه الظواهر المجتمعيّة القاسية، ومنها القتل والانتحار، والاختطاف، والسرقات العلنيّة، والخمول في العلاقات الإنسانيّة، وغير ذلك من الظواهر السلبيّة التي تركت عموم المجتمع في حَيرة ودهشة قاتلة؟!
فهل الخلل في المنظومة الحاكمة، أم في المنظومات الفكريّة والعائليّة والمجتمعيّة؟
لا خلاف في أنّ الله سبحانه وتعالى كرّم الإنسان بالكثير من المزايا وجعله أفضل المخلوقات، وسخّر له كلّ ما في الأرض الواسعة، والبحار العميقة، والسماء العالية لينتفع منها بما يضمن ويحقّق استمرار ذلك التكريم الربانيّ.
ورغم أنّ الإنسان هو المخلوق الأذكى والأفضل، وربّما الأقوى بعقله على هذا الكوكب، إلا أنّه في بعض المواقف يكون أضعف الكائنات المخلوقة، بسبب رغيف خبز، أو شربة ماء، أو حبّة دواء، أو حتّى شوكة ضعيفة يشاكها، ناهيك عمّا يعانيه الإنسان هنا أو هناك من حروب وتشريد وتهديدات، وغيرها من الأفعال البشعة التي تؤكّد تنامي الشرّ، وتغوله في الكون!
سبق لمنظّمة الصحّة العالميّة أن أعلنت (نهاية العام 2021) أنّ عراقيّا واحدا من كلّ أربعة يعاني من "هشاشة نفسيّة في بلد يوجد فيه ثلاثة أطباء نفسيّين لكلّ مليون شخص"!
هذه الضغوطات المجتمعيّة والحياتيّة قد تدفع بعض الناس الضعفاء للهروب من الواقع، واللجوء إلى نهايات تفجيريّة، ويفضلون الموت بالانتحار ظنّا منهم أنّه الطريق الأفضل للخلاص، والهروب من المجهول!
وبرزت ظاهرة
الانتحار في
العراق بعد العام 2003 بشكل تدريجيّ، وقد بدأت بعشر حالات تقريبا في العام 2003، وتنامت تدريجيّا حتّى وصلت إلى المئة حالة في العام 2009، ومنذ العام 2010 صار الانتحار بالمئات سنويّا، وقد بلغ 772 حالة في العام 2021، وبمجموع 6108 حالة انتحار ما بين 2003 و2021، وبمعدّل 322 حالة سنويّا!
وسبق لمنظّمة الصحّة العالميّة أن أعلنت (نهاية العام 2021) أنّ عراقيّا واحدا من كلّ أربعة يعاني من "هشاشة نفسيّة في بلد يوجد فيه ثلاثة أطباء نفسيّين لكلّ مليون شخص"!
ولا يمكننا هنا تجاهل آفة المخدّرات عند الحديث عن الانتحار، حيث يعاني نصف شباب العراق (رسميّا) من انتشار كارثة المخدّرات، التي تُفقد الإنسان القدرة على التحكّم بقراراته المصيريّة، ومنها الحياة، أو الانتحار!
ومن الأسباب الأخرى الدافعة للانتحار
الفقر والعوز وانتشار البطالة، والتفكّك العائليّ والمجتمعيّ، وغيرها!
غالبيّة السياسيّين يقرّون بالخراب العامّ، ومن ذلك إقرار هادي العامري، أمين عامّ منظّمة بدر، يوم الثلاثاء الماضي، والذي أكّد أنّ من بين التحديات العديد من الظواهر، ومنها "الإلحاد والمثليّة، والتخلّي عن القِيَم الأصليّة، وانتشار الأفكار المُنحرفة، وآفة المخدّرات، والأخطر فقدان الأمل لدى الشعب"!
وهذه الآفات لاحظتها حكومة بغداد حيث بيّنت وزارة الداخليّة، يوم 26 كانون الأول/ ديسمبر2021 أنّ "أسباب الانتحار متنوّعة، ومنها الفقر، الذي يشكّل 13 في المئة، والبطالة 9.5 في المئة، وأنّ معظم حالات الانتحار وقعت بين صفوف غير المتعلّمين، أو الذين لم يُكملوا المرحلة الابتدائيّة، وكانت نسبتهم 62.2 في المئة، والعاطلين عن العمل 35 في المائة، وربّات البيوت 29.9 في المئة"!
وبالتوازي أكّدت وزارة التخطيط أنّ نسبة الفقر العامّة تتراوح بين 25 إلى 32 في المئة، وما زالت محافظة المثنى الجنوبيّة تتقدّم المحافظات بأعلى نسب الفقر، وتجاوزت 52 في المئة، تليها الديوانية وذي قار بنسبة 48.5 في المئة تقريباً!
والعجيب أنّ غالبيّة السياسيّين يقرّون بالخراب العامّ، ومن ذلك إقرار هادي العامري، أمين عامّ منظّمة بدر، يوم الثلاثاء الماضي، والذي أكّد أنّ من بين التحديات العديد من الظواهر، ومنها "الإلحاد والمثليّة، والتخلّي عن القِيَم الأصليّة، وانتشار الأفكار المُنحرفة، وآفة المخدّرات، والأخطر فقدان الأمل لدى الشعب"!
مَنْ الذي أوصل العراق وأهله، باعتراف السياسيّين وقراءة الواقع، إلى هذه الدركات المخيفة من الدمار المجتمعيّ وفقدان الأمل؟
فمَنْ الذي أوصل العراق وأهله، باعتراف السياسيّين وقراءة الواقع، إلى هذه الدركات المخيفة من
الدمار المجتمعيّ وفقدان الأمل؟
وهل هذا الإقرار، وغيره، حجّة قانونيّة لمحاسبة كلّ المتورّطين بقلب حياة العراقيّين وتخريبها، وسحق طموحاتهم، وتدمير آمالهم؟
مَنْ يُريد أن يبني الدولة عليه أن يبدأ ببناء الإنسان (المجتمع)، وتطبيق القانون على الجميع، وبخلاف ذلك لا يمكن لكلّ المشاريع أن ترى النور والقبول والثبات!
twitter.com/dr_jasemj67