#ابتسامات_رمضانية.. عندما لبس أبو حسن الجلابية الكشمير (1)
محمد فهيم22-Apr-2205:51 PM
شارك
كاتب آخر
عاش أبو حسن حياته بين الماء والتراب مغروزا في معجنة الطين، يحمل الطين المخلوط بخلط من قش الأرز والتبن المدروس من أعواد القمح على طبلية خشبية يقود ذراعيها الأماميتين تارة والخلفيتين أخرى مقابل صاحب سنوات الشقاء أبو درويش، كي يقدمانها كقطعة فاخرة من الكيك يلوكها أبو فتحي بيديه ويقطع منها قطعا صغيرة يضعها في قالب خشبي لضرب الطوب اللبني.
عاد أبو حسن عصرا من عند مُعلمه الكبير، فرحا سعيدا مسرورا وكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، قائلا لأم حسن: سخني لنا الخبيزة، وهاتي ما تبقى من قطع خبز جاءتنا به جارتنا الست خضرة الأسبوع الماضي.
ردت أم حسن ساخرة: يا رجل لقد لهفت ما تبقى من الخبيزة، ولم تُبق على كسرة خبز واحدة، ولحست حتى الطبق والمغرفة وقبلهما الحلة، وبقي أن تأكل حيطان الدار. ثم لمَ أنت سعيد هكذا، وماذا معك في هذا الجوال؟
"افرحي ياولية، زقططي يا أم حسن، ولو عاوزة تزغرطي زغرطي، ولا أقولك بلاش"، رد عليها أبو حسن، بينما يداه تجذب الجوال يقربه نحوه ويبعده عن يدها التي طالما اتهمها بأنها طويلة تماما كلسانها.
خطفت أم حسن الجوال بقوة، حاولت فتحته بسرعة لكن شوقها لمعرفة ما بالجوال جعلها عاجزة عن فك أربطته، وهي من؟ هي صاحبة المهارة والشطارة في ربط وفك أربطة أجولة القمح والشعير والسمسم والذرة كل في موسمه، فلطالما عملت مع نساء الترحيلة في أرض الخواجة مقابل بعضة كيلات من الحب.
خطف الجوال، فكه بسرعة فهو من ربطه ويعلم ما به من عقد. أخرج منه جلابية من القماش الكشمير ذي البنية المتينة والأنسجة القوية والملمس الناعم، والتي ظل طوال عمره يحلم بأن يسلم على أحد ممن يلبس تلك الجلابية من الأعيان وأصحاب السرايات والأطيان.
علق أبو حسن الجلابية برفق على مسمار بال في حائط دهليز بيته بعد أن مسحه بيده من الصدأ مرات ومرات.
وقفت أم حسن منتفضة متوجهة نحو الجلابية الكشمير التي طالما رأت خولي الخواجة يلبسها ويضع فوقها شملة من الصوف، لكنها من فرط المفاجأة انكفأت فوق أبي حسن، فسقطا سويا على الأرض وراحا في نوبة هستيرية من الضحك.
دفعها أبو حسن بعيدا عن جسده وعن الجوال، وبينما يحاول أن يلتقطه مجددا نهرها قائلا: إوعي ياولية دوستي على البلغة الأجلاسيه اللميع، عمر أهلك ما شافوها.
أطلقت أم حسن زغرودة دوت في كفر شلح، ذلك الحي الفقير الذي يسكناه سويا وفقراء القرية، من الذين لا يملكون في بيوتهم حماما، ويقضون حاجاتهم في الخلاء حتى أطلق الناس على شارعهم هذا الاسم.
تجمع الجيران من كفر شلح، حتى ملأوا دهليز وحجرة أم حسن، حتى السلم الخشبي الذي يخترق قطعة صغيرة من السقف البالي والذي يتساقط منه قش الأرز وأعواد حطب الذرة الشامية والقطن، حيث تعلق الأطفال على درجات السلم الملخلخة وعيونهم تترقب وآذانهم تتسمع، متسائلين: ماذا وراء زغرودة أم حسن؟
وقف منتفخا كالديك البلدي حينما يلاعب فرخة الجيران، مختالا هو أيضا أمام جيرانه واضعا يديه في خصره تارة وفوق الجلابية الكشمير أخرى يمسح عليها، وثالثة يرفع البلغة اللميع لأعلى تعكس ضوء شمس الغروب فتبهر جيران كفر شلح.
همهمات وتساؤلات لا تتوقف، وأبو حسن يُعرض عن الجواب، وأم حسن تُشيح بوجهها بعيدا على عيون السائلين في تعال مصطنع وغرور مفتعل وكبر غير لائق بجلابيتها الممزقة وطرحتها السوداء البالية التي تُظهر من شعرها الأجعد أكثر مما تخفي.
وبين حيرة أهالي كفر شلح وغموض موقف أبو حسن، خرج الجمع سريعا على صوت سيارة تقف أمام بيت أبي حسن، الذي راح يزيح الرجال بيمناه والنساء بيسراه ويركل الأطفال بقدمه، حتى وصل إلى قائد السيارة، قائلا له مرحب بالبيه سواق الباشا، هلبس الجلابية الكشمير والبلغة اللميع في دقيقة.
أمسكت به أم حسن قائلة: على فين يا رجل؟
قال لها: إلى سرايا مسعود بيه، إفرحي ياولية إفرحوا يا كفر شلح، البيه اختارني علشان أحضر فرح بنته، وبعت لي الجلابية والبلغة الأجلاسيه.
أطلقت أم حسن زغرودة تضاهي أطول مواويل الست أم كلثوم في رائعتها الأطول في تاريخ الغناء العربي "فكروني"، وأعلى صوتا من صوت الحنطور منادي قريتنا، وكاد صداها يضاهي صوت ميكروفون الشيخ أحمد أبو غانم، وإبداعه وخفة دمه في النداء على بضائع أهل القرية.
بمجرد انتهاء الزغرودة تجمع كفر الجزار على كفر شلح، على حارة الجبالية، على ناحية السراوية، على الزلاطين.
وبعد التقاط أنفاسها توجهت أم حسن نحو أبو حسن الذي يمسك بمقبض السيارة اللامع يزيح عنه بعض ما ألم به من تراب السكة الترابية التي تجمع كفر مسعود حيث مكان الفرح بميت سهيل، حيث كفر شلح وبيت أبي حسن.
"والنبي يأبو حسن وحياة الغاليين عندك خدني معاك عاوزة أسمع الصييت حواس والمغنية أنهار"، تمسك السيدة بيد زوجها التي تعلوها التشققات وتغطيها طبقات من القشف، فيزيح يدها بعيدا، ويقول لها في ابتسامة ماكرة: ياولية مينفعش وانت عندك جلابية كشمير وبلغة لميع، البيه عاوزني لوحدي أنا والمعلم.
"والنبي يأبو حسن، عاوزة أشوف سراية البهوات دول قبل ما موت".
دفعها أبو حسن بيده ليبعدها عن طريقه، قائلا في لهجة ممزوجة بين المزاح والجد: "ياولية أنا جايبك للصويت والمحازن والمياتم والعزا، مش للزغاريط والأفراح والليالي الملاح".
الأفراح والليالي الملاح، داعبت تلك الكلمات خيال أبو حسن، ونقلته بعيدا حيث سرايا البيه، يجلس ومعلمه أمام صينية كبيرة من الفتة والأرز المفلفل وفوقها هُبر اللحمة ممسكا بالملاعق المصقولة غير تلك الصفيحية التي جلبتها أم حسن في جهاز عرسها وتكسرت واحدة تلو الأخرى، ليأكل من الصينية أكل الجمال وقام قبل الرجال ليلتهم طبقا من الأرز باللبن، ثم حبس بكوب من الشاي وبعده كوب من الألومنيوم يتساقط منه شربات الفراولة ثم شربات المانجا، إنها ليلة ما أحلاها إن انتهت بحضور الغوزاي.
أفاق أبو حسن على صوت توسلات أم حسن، فانطلق مسرعا نحو الجلابية، فلقد تأخر على البيه سواق الباشا، بينما خطف البلغة من على الشريط البالي الذي ينام عليه وأم حسن، وهي تجره من دبر وتُمسك بقميصه الخشن المصنوع من الكتان، وهو يجرها حتى غلبته فوقع أرضا والجلابية في يده لكن المسمار البالي شقها نصفين.
جلس أبو حسن وأم حسن على الأرض والجمع الغفير يراقب ويضحك على الزوجين، لينتهي الحلم كما بدأ بكلمات أبو حسن: سخني لنا الخبيزة، وهاتي ما تبقى من قطع خبز جاءتنا به جارتنا الست خضرة الأسبوع الماضي.