صحافة دولية

NYT: "الاختيار" يكشف عمق تدخّل نظام السيسي بالإنتاج الفني

سينما في مصر- جيتي

قالت صحيفة "نيويورك تايمز"، إن نظام رئيس الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، وصل إلى مرحلة غير مسبوقة، من التدخل، في صناعة الأفلام والتلفزيون في مصر.

وأشارت الصحيفة في تقرير ترجمته "عربي21" إلى أن التدخل، يتم في مختلف مراحل الإنتاج، بغرض اختبار ردة فعل الرأي العام أو معرفة رأيه في بعض المواضيع السياسية الحساسة.

ولكن لم يسبق أن وصلت أي من الحكومات المصرية إلى هذا الحد من التدخل، إذ أن مسلسل الاختيار رغم أنه شاركت فيه نخبة من ألمع نجوم التلفزيون المصري، فإنه يقر علنا بالتعاون بين المنتجين ووزارة الدفاع المصرية.

وفي ما يلي النص الكامل للتقرير:

كما جرت العادة، يعتبر شهر رمضان موسم الدراما التلفزيونية، حيث تتجه أنظار الملايين من المصريين كل ليلة في شهر الصيام نحو شاشة التلفزيون، والإنتاجات التي تعج بالنجوم.

إلا أن مسلسل الاختيار هو الذي شد اهتمام الرأي العام أكثر من غيره هذا العام، حيث أثار هذا المسلسل جدلا كبيرا، وبرز بإنتاج حكومي ضخم يدعي تصوير الحقيقة حول قصة وصول دكتاتور مصر عبد الفتاح السيسي للحكم في سنة 2013، بعد فترة من الاضطرابات العنيفة والانقسام الوطني الحاد في مصر.

وكانت الحلقة 25 من هذا المسلسل، التي عرضت يوم الثلاثاء الماضي، وظهرت فيها قوات الجيش وهي تحبط عملية تهريب أسلحة، هي التي خلفت الجدل الأكبر في الشارع المصري.

وفي ليلة عرض الحلقة، خرج الرئيس المصري بتصريح يؤكد الارتباط بينه وبين شخصية بطل المسلسل، وقال: "إن كل كلمة في هذا المسلسل حقيقية. ربما كثيرون منا يتساءلون ما هو الهدف من إنتاج هذا المسلسل. الهدف هو أن نسجل الحقيقة بأمانة وإخلاص وشرف، في وقت ينعدم فيه الشرف والصدق".

إلا أن المنتقدين للنظام المصري يؤكدون أن هذا المسلسل أبعد ما يكون عن تصوير الحقيقة، بل هو مجرد استعراض يعيد كتابة التاريخ من خلال نفخ صورة الرئيس وشيطنة معارضيه.

وخلال العشرية التي قضاها السيسي كرئيس للبلاد، تمكن هذا الرئيس المستبد من تحويل مصر من بلد كان يتسامح مع بعض النقاشات السياسية ويوفر قدرا من حرية الإبداع، حتى في فترات حكم بعض الرؤساء الأقوياء في السابق، إلى بلد يلجم فيه الخوف أفواه الجميع. حيث يتم سجن المنتقدين مهما علا أو صغر شأنهم، ويتم تجريم الاحتجاجات، وإسكات الإعلام، وقد تمكنت الحكومة من القضاء على أي معارضة سياسية.

كما تمكن النظام الحاكم وبشكل ممنهج من التدخل في صناعة الأفلام والتلفزيون في مصر، التي غزت لعقود طويلة شاشات أجيال من الشعوب في الشرق الأوسط، ويتم التدخل في مختلف مراحل الإنتاج، بغرض اختبار ردة فعل الرأي العام أو معرفة رأيه في بعض المواضيع السياسية الحساسة.

ولكن لم يسبق أن وصلت أي من الحكومات المصرية إلى هذا الحد من التدخل، إذ أن مسلسل الاختيار رغم أنه شاركت فيه نخبة من ألمع نجوم التلفزيون المصري، فإنه يقر علنا بالتعاون بين المنتجين ووزارة الدفاع المصرية.

 

 

اقرأ أيضا: السيسي يترحم على مرسي.. ويقول: التآمر عليه تآمر على مصر


ويقول بلال فضل، وهو سيناريست وكاتب صحفي بارز ومنتقد لهذا المسلسل: "إن العدو الحقيقي للدولة المصرية الآن هو كل شخص يقف ضد الدولة. وفي الحرب يجب أن تستخدم أي سلاح لديك، والآن هم يمتلكون الدراما كسلاح."

وكان الموسم الأول من مسلسل الاختيار قد عرض قصة حقيقية عن ضابط في القوات الخاصة يقاتل ضد المتطرفين، فيما تمحور الموسم الثاني حول محاربة الإرهاب. أما الموسم الثالث فهو يغطي أحداث وملابسات وصول السيسي إلى السلطة، ويتم حاليا عرضه في مصر فقط وليس في عموم الشرق الأوسط.

هذا المسلسل يخلط بين الخيال وما يسميه منتجوه الحقيقة، ويقتطع لقطات لم تعرض سابقا تظهر فيها شخصيات تاريخية مهمة، يبدو أن المخابرات المصرية هي التي قامت بتسجيلها سرا، ويتم عرضها ضمن كل حلقة بعد عمليات القص واللصق.

وإذا كان السيسي هو البطل في مسلسل الاختيار، فإن الأشرار هم الإخوان المسلمون. يذكر أن مرشح هذه الجماعة الإسلامية فاز بأول انتخابات ديمقراطية في مصر في 2012، بعد الإطاحة بالديكتاتور حسني مبارك الذي حكم لسنوات طويلة، وانتهى حكمه باحتجاجات شعبية حاشدة خلال انتفاضات الربيع العربي في 2011.

إلا أن محمد مرسي رئيس الإخوان المسلمين تسبب بانقسام كبير، وقد اتسمت فترة حكمه القصيرة بكثرة الاضطرابات. ومع وجود ملايين من المصريين الذين يدعون لعزل مرسي عن الحكم، تولى الجيش بقيادة وزير الدفاع السيسي مقاليد السلطة، ونفذ مجزرة ذهب ضحيتها قرابة ألف شخص في يوم واحد في آب/ أغسطس 2013، خلال اعتصام نظمه أنصار مرسي للاحتجاج على استيلاء العسكر على السلطة.

وفي بداية حكم السيسي، تمتع الفنانون المصريون بنفس هامش المرونة الذي كان موجودا في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر، الذي قرر فتح الباب أمام حرية الفن في أواخر الستينات، بشرط عدم التطرق إلى مواضيع حساسة مثل مجزرة 2013 التي تعرض لها أنصار مرسي.

ومنذ 2017، عمدت شركة مملوكة لجهاز أمن الدولة المصري إلى احتكار البث التلفزيوني، وسيطرت على شركات الإنتاج والقنوات والمنصات الإعلامية، وتسببت بوقف نشاط شركات الإنتاج التلفزيوني الأخرى.

ويتم إرسال كافة حلقات البرامج بشكل مباشر نحو ضباط أمن الدولة للمراجعة، وذلك بحسب أشخاص من داخل هذا القطاع. لذلك لم يعد ضباط الشرطة الفاسدون أو المتعسفون يظهرون في نصوص المسلسلات والأفلام، وحل محلهم أبطال من الجيش يتغلبون على الجواسيس. أما الفنانون الذين لم يتقبلوا خط التحرير الحكومي، فإنهم يتعرضون لحملة اتهامات بالتعاطف مع الإخوان، أو يتم حرمانهم من العمل في مصر.

وتقول جوي شيا، الباحثة في معهد دراسات الشرق الأوسط والمتخصصة في الشؤون المصرية: "إن حقيقة وجود هذه السيطرة المركزية على الإعلام في مصر تعني أن بإمكان الدولة التحكم في المنتجين والممثلين والكتاب، وكل مرحلة من مراحل الإنتاج من أجل إخراج القصة تماما كما يريدون هم أن يقدموا أنفسهم."

ومن هؤلاء بلال فضل الذي غادر القاهرة نحو نيويورك في 2014، بعد أن شارك في عمل تلفزيوني ناقد للانتهاكات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية، وتعرض بسبب ذلك للاستهداف والتضييق. وهو الآن يدير برنامجا على اليوتيوب حول قطاع الترفيه والإعلام في مصر.

ويقول بلال فضل وآخرون منتقدون للنظام المصري، إن مسؤولين في شركة الإنتاج الحكومية كثفوا خلال السنوات الأخيرة مراقبتهم للإنتاج الإعلامي، وباتوا يصدرون أوامر مفصلة حول الشخصيات وقصص الأعمال التلفزيونية.

هذا بالضبط كان أسلوب إنتاج مسلسل الاختيار. إذ أن الموسم الأول قام على الخلط البارع بين الحقائق والخيال، وكان أسلوب المسلسل واضحا منذ البداية. وفي الحلقة الأخيرة من الموسم الأول، التي عرضت في شهر رمضان قبل سنتين، تم بث مقطع فيديو لأحد الشخصيات الرئيسية أثناء اقتياده نحو الإعدام في 2020. وقد وجهت له تهم متعلقة بالتورط في سلسلة عمليات إرهابية.

وقد جاء في تنويه البداية الذي وضعه المنتجون في مسلسل الاختيار 3: "هذا المسلسل يستند إلى أحداث حقيقية، مع تغيير بعض الأسماء والأماكن. وهو يروي جزءا من تاريخ مصر شاهدناه بأعيننا أو رواه لنا آخرون عايشوا الأحداث."

وفي الموسم الحالي الذي يغطي آخر 96 ساعة لمحمد مرسي في الحكم، يظهر هذا الرئيس السابق مع شخصيات إخوانية أخرى، في صورة المتآمرين المخادعين، ودائما ما ترافق حركاتهم موسيقى متشائمة.

أما السيسي فيتم تصويره كرجل عائلة متواضع يتصرف بحكمة وهدوء تحت الضغط. ويرى المشاهدون أن الممثل الذي يؤدي هذا الدور، وهو ياسر جلال، نجح بتقليد أسلوبه وحتى صوته الرقيق.

ويحرص هذا المسلسل على التأكيد على تدين السيسي، وعلى أن تدينه على عكس مرسي لا يحرك قراراته السياسية.

وفي إحدى الحلقات تقول شخصية السيسي لشخصية مرسي، في سياق رفض دعوة منه للانضمام لجماعة الإخوان: "سواء كان الشخص رئيسا أو قائدا للجيش أو في أي منصب آخر، يجب أن يكون القائد وطنيا ولا شيء آخر."

وينتظر المصريون كل عام شهر رمضان للجلوس أمام التلفزيون ومشاهدة الحلقات الجديدة من المسلسلات الرائجة، وذلك كل ليلة بعد الإفطار، وهي عادة مستمرة منذ سنوات طويلة.

وتقول شيا: "هذه المسلسلات أداة قوية جدا، وهي دراما تلفزيونية تشد المشاهدين."

يذكر أن مسلسل الاختيار يحظى بمتابعة واسعة، وقد جذب العديد من المعجبين بفضل الحبكة الدرامية ومقاطع الفيديو التاريخية المسربة. إلا أنه في نفس الوقت يتعرض لموجة سخرية واسعة النطاق على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يسخر المستخدمون من غلبة البروباغندا والدعاية الحكومية فيه.

وبالنسبة للمشاهدين الذين عايشوا ذلك التاريخ قبل أقل من عشر سنوات، فإن نهاية هذا الموسم من الاختيار ليست غامضة. حيث أن مرسي تم إيداعه السجن وتوفي في قاعة محكمة في القاهرة في 2019.

إلا أن الإخوان المسلمين ظلوا العدو رقم واحد لحكومة السيسي، رغم وجود بعض المعارضين السياسيين الآخرين الذين يتم اتهامهم بشكل روتيني بالارتباط بالإخوان. وأي شخص توجه له هذه التهمة يكون معرضا للطرد والتهميش أو الاعتقال ومواجهة تهم الإرهاب.

هذا ما تعرض له عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي السابق في الإخوان، والمرشح الرئاسي الذي تم اعتقاله في 2018 وإدانته في مارس/ آذار الماضي، بتهمة إقامة لقاءات سرية مع هذه الجماعة.

في نفس اليوم الذي تحدث فيه السيسي حول المسلسل، كان خالد علي المحامي والحقوقي الذي ينوب عبد المنعم أبو الفتوح، قد قرر استعمال نفس سلاح الرئيس. فقد أعلن أنه تقدم بطلب لإعادة المحاكمة، بناء على أدلة جديدة قال إنها تثبت أن موكله قطع علاقته مع الإخوان المسلمين قبل وقت طويل من الأحداث التي حوكم من أجلها. أما الأدلة فلم تكن إلا أربعة مقاطع فيديو مسجلة بشكل سري، تم عرضها لأول مرة في مسلسل الاختيار.