قضايا وآراء

غرورُ التّديّن

1300x600

لقد شهدت الكتب التربوية والتزكويّة عبر التّاريخ تحذيرا من التديّن الذي يقود صاحبه إلى الغرور٫ ومن ذلك العبارة المشهورة التي ذكرها ابن عطاء الله السّكندري في حكمه: "رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً".

وغرور التديّن يمكن تعريفه بأنّه: "شعور المتديّن أو الملتزم بأحكام الإسلام سواءً كان فرداً مستقلاً أو كان منتمياً إلى إحدى جماعات العمل الإسلاميّ بأفضليّته على غيره من غير المتديّنين أو التّائهين عن صراط الحقّ والهداية أو شعوره بالأفضليّة على من لم يكن من أبناء جماعته سواء في ذلك المنتمين إلى جماعات أخرى أو غير المنتمين إلى أيّة جماعة أصلاً".

وغرورُ التديّن يبدأ شعوراً قلبيّاً سرعان ما ينتقلُ إلى حالاتٍ سلوكيّة، وتصل الأمور درجةً بالغةً من الخطورة حين يتمّ إلباسُ السلوكيّات المعبّرة عن غرور التديّن ثوب الشرع وإضفاء الصّبغة الشرعيّة عليه.

الأصل في التديّن أنّه يضفي على النّفسِ الكثير من التّهذيب الباطنيّ والظّاهريّ، إلا أنّ التديّن المنقوص قد يصحبه شعورٌ استعلائيّ على الآخرين يظهر في سلوك الأفراد والجماعات، ويتسرّب حتّى داخل البنى الإسلاميّة سواء كانت دعويّة أم سياسيّةً دون أن يلتفتَ إليه الكثيرون، غير أنّه يظهر إلى العلن من خلال سلوكيّات وتعبيرات مختلفة.

إنّ غرور التديّن نهجٌ إبليسيّ يمنع صاحبه من الخضوع للحقّ إن أتاه؛ فإبليس هو صاحب أوّل شعارٍ تكبّريّ إذ قال: "أنا خيرٌ منه" حين أمره الله تعالى بالسّجود لآدم عليه الصّلاة والسّلام، وكلّ من تدفعه طاعته إلى الاستكبار رافعاً شعار "أنا خيرٌ منه" ففيه من روح إبليس.

إنّ شعور الفتاة المحجّبة بالاستعلاء على غير المحجّبة فقط لأنّها لا ترتدي حجاباً والنّظر باحتقارٍ وتقزّز إلى غير المحجّبة، واستعلاء المصلّي على غير المصلّي والتّعامل معه بازدراء، واستعلاء المتديّن على شارب الخمر وغيره من مرتكبي الموبقات والتّعامل الفوقيّ معهم؛ هو خللٌ تربويّ يبني سدوداً وحواجزَ بين هؤلاء الشّاردين عن درب الهداية وبين الدّين نفسه بسبب تكبّر بعض هؤلاء المتديّنين عليهم.

إنّ نظرة المتديّن المنفق الذي ينظر إلى غير المنفقين نظرة استعلاء نفسيّ وتملّكه شعورٌ أنّه أفضل منه، وشعور من يمارس العبادات والطاعات أنّه خيرٌ من الآخرين يؤكّد أنّ هذه الطّاعة التي دفعت فاعلها إلى هذا الشّعور الاستعلائيّ هي طاعةٌ ظاهريّة انطوت على معصيةٍ كبيرة وهي معصية الكبر والعجب فكانت سبباً في البعد عن الله تعالى بدل أن تكون سبباً في القرب منه.

إنّ العبادة التي يمارسها الإنسان ينبغي أن تكون منطوية على العبوديّة وهي الخضوع المطلق لله تعالى، وأن يشعر في كيانه بالمهابة من الله تعالى والخوف منه والتعظيم له، مما يقوده لاستصغار عمله فينكسر متواضعاً بين يدي الله تعالى، بدل استعظامه لعبادته التي تؤدي به إلى الاستكبار والغرور على خلق الله تعالى من العاديّين في عبادتهم أو التّائهين عن صراط الله تعالى المنحرفين عن جادة الصّواب.

غير أنّ هذه السّلوكيّات الفرديّة المستنكرة تغدو أشدّ خطراً إن تسرّبت إلى داخل جماعات العمل الإسلاميّ، وتمّ التعامل معها على أنّها قضايا طبيعيّة أو مشروعة لتتحوّل مع الوقت إلى جزء من البُنى الفكرية لهذه الجماعات من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

وما نقصده بجماعات العمل الإسلاميّ جميع الجماعات الدّعويّة والمساجديّة والسّياسيّة والتيّارات الفكريّة والتنظيمات المنبثقة من الإخوان المسلمين والسّلفيّة والصّوفيّة، وغيرها من جماعات العمل الإسلاميّ.

من أنتم؟ هذه العبارة الأشهر التي خاطب بها القذّافي الثّائرين عليه؛ يستخدمها العديد من العاملين في الحقل الإسلاميّ إن تعرّضت جماعاتهم ومكوّناتهم لأدنى انتقاد من الآخرين.

من أنتم حتّى تتطاولوا على أهل العلم وأتباع السّلف الصّالح؟

من أنتم حتى تنتقدوا المجاهدين الذين يبذلون دماءهم وأرواحهم في سبيل تحرير المقدّسات؟

من أنتم حتّى تخطّئوا الثّوار الذين وقفوا في وجه الطّغاة والمستبدّين؟

ومن أنتم حتّى تنتقدوا جماعة قدّمت خيرة أبنائها على أعواد المشانق وفي سجون المستبدّين؟

ومن أنتم حتّى تمسّوا هذا الشّيخ أو مريديه بانتقاد وهم أحباب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟

من أنتم حتّى تنتقدوا من قدّموا أرواحهم في الميادين وأنتم تجلسون خلف الشاشات في الغرف المكيّفة؟

"من أنتم؟" انعكاسٌ لغرور التديّن الذي يستشعر العامل في الحقل الإسلاميّ أنّ له الحقّ في فعل ما يشاء دون أن يوجّه له أحدٌ انتقاداً ما دام يعمل لخدمة الإسلام، وهي تعبيرٌ عن شعورٍ بأفضليّةٍ على الغيرِ تمنعه من توجيه النقد، وهي بالتّالي تمنع صاحبها ومنتهجها ومردّدها من إصلاح خلله والتّراجع عن خطئه، وتمنحه صكّ التّزكية التي تبيح له إلقاء كلّ الانتقادات تحت قدميه واعتبار سلوكه هو الحقّ ما دام المنتقدون هم شرذمةٌ يتم التعامل معهم بشعار "من أنتم؟".

إنّ غرور التديّن آفةٌ تتجاوز مخاطرها السّلوك الفرديّ لتغدو حالةً منهجيّة إن تمّ إهمالها والتّغاضي عنها، وهذا يستدعي من الدّعاة والعلماء والمربّين من أبناء هذه الجماعات والكيانات استنفار جهودهم لمواجهة هذا الدّاء بجرعاتٍ معرفيّة وتربويّة مركّزة ومتتابعة، وإلا فإنّ القادم لن يكون أحسن حالاً ولا مآلاً.