مع بداية عهد نظام الأسد شعرت العائلة الحاكمة بأن المنظومة الاقتصادية التي نشأت في سوريا منذ عقود تحتاج إلى تغيير لأنه يخشى من عدم ولائها فهي ربيبة المرحلة الديمقراطية السابقة، لذلك قامت العائلة الحاكمة بدعم نشوء طبقة تجارية جديدة سميت طبقة محدثي النعمة التي كانت عبارة عن واجهة للعائلة الحاكمة ومن المقربين منها وطوع بنانها.
خرجت هذه الطبقة عن أخلاقيات العمل التجاري المتوارثة كابرا عن كابر والمتعارف عليها في سوريا منذ عقود من حيث الأمانة والمصداقية وعدم الإضرار بالمنافسين وإنقاذ المتعسرين واعتماد الاستثمار الاستراتيجي المبني على خلق فرص العمل والتصدير الخارجي، عُرفت هذه الطبقة الجديدة بالفساد الجشع والنفاق الشديد لنظام الأسد والعمل وفق قاعدة الربح السريع البعيد عن المصلحة الوطنية.
كان الهدف من نشوء طبقة محدثي النعمة ان تكون داعمة لولي نعمتها المتمثل بالنظام وتغيير الواقع المادي من فئة كانت يتهمها النظام بالبورجوازية والإقطاعية إلى فئة تدعي نصرتها للعمال والفلاحين كذبا وزورا.
هذه الطبقة تم تغييرها خلال الثورة باستمرار بسبب العقوبات الدولية وبسبب جشع الطبقة الحاكمة والرغبة بالتخلص من كل من يحتمل خروجه عن إرادتهم.
لوحظ مع بداية الثورة تشكل طبقات جديدة عسكرية وسياسية راغبة بدخول قطاع العمل العسكري والسياسي ضد النظام للمساهمة في إسقاطه، وهذا أمر مفيد لا بل مطلوب وبشدة لتعديل الواقع السيء الذي فرضه نظام الأسد من حيث جعل الانتماء إلى الجيش يخضع لمعايير لا تناسب نسبة كبيرة من السوريين مما أدى إلى انفضاض غالبية السوريين عنه خاصة الطبقة المتوسطة، أما السياسة فكانت محرمة ومجرمة لأنها تجعل أداء عائلة الأسد يخضع للنقاش والتقييم وهذا مرفوض ان يتم مجرد الإقتراب منه.
كانت الإشكالية الكبرى أن كلا المجالين يحتاجان لقواعد عمل تخدم سوريا المستقبل الدولة المدنية الديمقراطية من حيث بناء جيش وطني وظيفته حماية السوريين، لا يتدخل بالسياسة أو معايش الناس بل يخضع للسلطة السياسية كائنا من كان يحكم الدولة مادامت تعبر عن رغبة الشعب، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع العمل السياسي الذي يجب أن يكون عبر منظومات سياسية حقيقية تدرس الأوضاع وتحدد مصالح السوريين وكيفية الوصول إليها بعيدًا عن الإملاءات الخارجية أو المصالح الفردية.
طبقة محدثي العسكرة والسياسة الحالية هدفها الحقيقي استبعاد الطبقة السياسية والعسكرية الوطنية لصالح طبقة انتهازية جاهزة لتلقي الإشارات من الخارج وعقد الصفقات حتى لو كانت تعارض مصالح وطنها.
بعض القادمين إلى قطاعي العسكرة والسياسة خرجوا عن هذه القواعد المتعارف عليها ديمقراطيا بعد فترة من انطلاق الثورة خاصة بعد استشهاد بعض القادة الثوريين المخلصين واستنزاف بعض الشخصيات السياسية التي لم تستطع التفاهم مع أفراد غير منضبطين أو لا يمتلكون الحدود الدنيا من الأبجديات السياسية، حيث فهم بعض المشتغلين في الأعمال الميدانية انَّ تطورهم يأتي بالتواصل المباشر مع الدول وأجهزتها أو مراكز أبحاثها، لذا أصبحت تأتيهم الأوامر لاحقا من قبل الداعم مباشرة بعيدا عن القيادة السياسية للثورة أو حتى بدون إعلامهم بما يجري لذا دخلوا بحروب فيما بينهم بعيدا عن مصلحة الثورة في حصر القتال بميليشيات الأسد وداعميه الروسي والإيراني بل عقدوا اتفاقيات هدنة بشكل منفصل ودون تقييم المصلحة في ذلك والتشاور مع المختصين، لقد تم خلال هذه الفترة إقصاء كبار الضباط المنشقين فقط لأنهم لم يقبلوا هذه الاساليب في العمل، بينما كان المطلوب تواجدهم في قيادة العملية أو على الأقل ضمن مواقع استشارية عليا وأصبح بعض قادة الفصائل مجرد قادة لميليشيات أمر واقع متهمة بالفساد وتقييد الحريات وحتى إزهاق الأرواح.
أما قواعد الاشتغال بالسياسة التي فهمها بعض المستجدين هي "أنا ومن بعدي الطوفان"، "أنا موجود إذن الأمور على ما يرام"، "أنا مدعو لمؤتمر أو ندوة استشارية فالأمور ممتازة "بعيدا عن قواعد ممارسة العمل الجماعي والمصلحة الثورية التي تصوب العمل وتقيد المصالح الفردية، فترى كثيرا من مُحدثي الاشتغال بالسياسة يستخف بكثير من رجالات السياسة بل قد يخونهم حتى يبقى في صدارة المشهد بعيدا عن مصلحة الثورة، لقد اتبعت قواعد الإقصاء على نطاق واسع واتخذت القرارات عبر آليات الكولسة بشكل فاقع ومسيء، فعلى سبيل المثال أصبحت عمليات الانتخاب في الإئتلاف تتم بناء على اتفاقيات بين أعضاء منفردين وممثلي الفصائل الذين لهم دور رئيسي في ذلك حيث يقومون بالانتخاب بشكل أصم حيث تُوَكِّل الكتلة شخصا ينتخب عن الجميع خوفا من عدم انصياع البعض للأوامر، هذه الآلية توسعت بشكل كبير في السنتين الآخيرتين وهذا الأمر ينسحب على هيئة التفاوض واللجنة الدستورية.
إنَّ الطبقة التي سيطرت حاليا على العمل العسكري والسياسي في الثورة السورية يمكن تسميتها بكل صراحة بطبقة محدثي العسكرة والسياسة والشبيهة بطبقة محدثي النعمة التي أنشأها نظام الأسد بهدف استبعاد الطبقة التجارية المحترمةْ، فطبقة محدثي العسكرة والسياسة الحالية هدفها الحقيقي استبعاد الطبقة السياسية والعسكرية الوطنية لصالح طبقة انتهازية جاهزة لتلقي الإشارات من الخارج وعقد الصفقات حتى لو كانت تعارض مصالح وطنها.
إن طبقة مُحْدثي الاشتغال بالعسكرة والسياسة جلبت الكوارث على الثورة السورية وإن لم تتم عمليات إصلاح جذرية على قواعد الاشتغال بهما ستبقى الثورة السورية في حالة انحدار وسيكون عندها الرابح الأكبر هو عائلة الأسد والدول التي لها مصلحة بأن تبقى سورية دولة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، تقتات الفتات على موائد الآخرين وهذا ليس وصف سورية وشعبها الحضاري الضاربة جذوره في عمق التاريخ والذي يشهد له الجميع بمصداقيته، إن من قام بثورة ضد عائلة الأسد الإرهابية لن يقبل بسيطرة تلك الفئة وستكون محاسبة السوريين لهم عسيرة وإن غدا لناظره قريب.
زيارة أردوغان للسعودية.. حديث الثورة والمصلحة والتبرير واللبن المسكوب
مجزرة التضامن وإعادة التذكير بوحشية الأسد
كيف ننتصر لضحايا مجزرة التضامن؟