من الصعب إحصاء المقالات والأخبار والاستطلاعات التي تتحدّث عن هواجس كيان الاحتلال حيال النهاية المحتومة، ويكفي أن تعاود الظهور بين حين وآخر، مع كل موجة من موجات المقاومة التي يبديها الشعب الفلسطيني، حتى نتأكد من عمقها في وعي مجتمعه (كُتبت هذه السطور قبل اغتيال شيرين أبو عاقلة، وتداعياته، والذي يؤكد مضمونها أكثر فأكثر).
من يتابع صحافة الاحتلال اليومية، وما يُبث في مواقعه الإخبارية؛ سيدرك ذلك على نحو لا لبس فيه، فلا يمرّ يوم، وبخاصة في المناسبات العامة، مثل ما يسمى "عيد الاستقلال" أو "رأس السنة العبرية"، وما شابه، إلا وتعثر على ذلك الكم من التحليلات والأخبار والخواطر والاستطلاعات التي تعكس هذه الظاهرة.
خلال الأسبوع الماضي، انشغل كثيرون بمقال لرئيس وزراء الكيان الأسبق "إيهود باراك"، نشره في صحيفة "يديعوت أحرونوت"؛ يتحدث فيه عن هواجس الكيان بمناسبة ما يُسمّى "عيد الاستقلال"، وتوقفوا عند عبارة في المقال تتحدث عن هاجس العقد الثامن.
فيها قال باراك: "إسرائيل في عمر الـ74 (..) لسنا الوحيدين في لعنة العقد الثامن (الكلمة التي انتشرت هي نقمة، وأجد أن "لعنة" هي الترجمة الأقرب للصواب). في العقد المذكور منذ إقرار الدستور؛ نشبت في الولايات المتحدة الحرب الأهلية. فيه بعد توحيد إيطاليا 1860؛ تحوّلت لفاشية. في عمر مشابه بعد توحيد ألمانيا أصبحت نازية. في ذات العقد للثورة الشيوعية تفكّك الاتحاد السوفياتي".
بعد ذلك بأيام، ويبدو أن "باراك" قد علم بطبيعة التغطيات الإخبارية (العربية) لما ورد في المقال؛ نشر مقالا آخر، أكد فيه على قوة كيانه، وهمّش التهديدات التي يتم التداول بشأنها مثل "تهديد المقاومة في الضفة وغزة"، أو النووي الإيراني، لكنه توقف مليّا عند ما رآه تهديدا وجوديا حقيقيا، يتمثّل في حالة الانقسام الداخلي.
هذا البُعد تمّ التوقف عنده مليّا خلال السنوات الأخيرة، إذا لم يحدث أن عانى الكيان من هذا الكمّ من الانقسامات ومن الفساد في الطبقة السياسية العليا، كما حدث خلال الألفية الجديدة، الأمر الذي بدأ يثير مخاوف حقيقية بشأن المستقبل.
لا نحتاج إلى نبوءات وتصريحات من هنا أو هناك، حتى نتأكد من مصير هذا الكيان، لأن ذلك وعد الله، بجانب منطق التاريخ
لا يحدث ذلك كله بسبب هواجس عبثية كما يعتقد كثيرون تسيطر على وعيهم الحالة السياسية في ظاهرها، عبر النظر إلى طبيعة السلطة في رام الله، والتي تمنح الغزاة "أرخص احتلال في التاريخ"، بتعبير رئيسها، بجانب "القبيلة الحزبية" التي تمنحها الشرعية ("فتح" أعني)، والتي تحوّلت، تبعا لذلك إلى حزب سلطة تابعة للاحتلال، ثمّ سياج الحماية العربي الذي يتمتع به الكيان، ثمّ الدعم الدولي، مع التفوّق العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، وأخيرا موجة الهرولة والتطبيع الجديدة التي يحتفل بها الصهاينة.
والحال أن كل ذلك لا يمكن أن يخفي حقيقة الضعف الذي يعاني منه الكيان، وبالطبع قياسا لما كان عليه حاله سابقا، حين كان يسحق أي محاولة للتصنيع العسكري الاستراتيجي في المنطقة، فيما يقلقه الآن كيان صغير (قطاع غزة) يتسلّح بإمكانات عسكرية ومعنوية توقف الكيان على رؤوس أصابع قدميه، كما حدث في معركة "سيف القدس" 2021، ثم عجزه أمام امتلاك إيران للقدرات الاستراتيجية.
إن دقة التوصيف ما زالت تقول إن ميزان القوى العسكري لا يميل لصالح الكيان، والأهم ميزان القوة المعنوي مع شعب مدجّج بالتضحية، مقابل مجتمعه المهزوم، ثم انقساماته الداخلية، بجانب تراجع نفوذ الغرب الذي منحه القوة والحاضنة طوال العقود.
أضف إلى ذلك تلك الحقيقة التاريخية؛ ممثّلة في أنه كيان يسبح في محيط من العداء العربي والإسلامي، والذي لن يمنحه فرصة البقاء. وإذا تذكّر بعضهم مرحلة التطبيع والهرولة، فيجب أن نذكّرهم بأن هناك مرحلة أخرى سابقة؛ ما لبثت أن انتهت بفعل الدم الفلسطيني في انتفاضة الأقصى.
ما نريد قوله بوضوح هو إننا لا نحتاج إلى نبوءات وتصريحات من هنا أو هناك، حتى نتأكد من مصير هذا الكيان، لأن ذلك وعد الله، بجانب منطق التاريخ. ولا نحتاج للكثير من دقة النظر، حتى نتيقّن قبل ذلك من دخوله مرحلة التراجع المضطّرد، ما يعني أن مهمة الشرفاء والأحرار راهنا، هي ضرب وعزل كل الظواهر التي تمنحه بعض آمال البقاء، مثل سلطة العار في رام الله، ومثل التطبيع الرسمي العربي، لأن تلك هي مهمّتهم الحقيقية، وليس انتظار المعجزات، وتحديد مواعيد وقوعها.