ثمة نظام عالمي قديم أحادي القطب يحتضر ونظام عالمي متعدد الأقطاب جديد يولد، "وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله وتحول العالم بأسره، وكأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفةٌ وعالَمٌ مُحدَث"، حسب عبارة عبد الرحمن بن خلدون.. تلك هي خلاصة التاريخ فدوام الحال من المحال، إذ لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا سوى ضربة البداية لتشكل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب؛ تتمتع فيه الصين وروسيا بحضور كثيف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن انتهت صلاحية نظام قديم ظهر ما بعد سقوط جدار برلين مطلع تسعينيات القرن المنصرم عقب انهيار عدو الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، وتفرد أمريكا بالهيمنة على الشؤون العالمية، نظام جديد يتشكل الآن يعترف بقوة روسيا العسكرية والسياسية، وبالصعود الصيني الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.
لم تك جرأة روسيا على غزو أوكرانيا العلامة الأولى على تراجع القوة الأمريكية، ولكنها أعادت الجدل الطويل حول التراجع الأمريكي، إلى حد ادعاء بعض الخبراء والمراقبين أن الولايات المتحدة لم تعد قوة عظمى، مؤشرات تراجع القوة الأمريكية ظهرت بعد الانسحاب الفوضوي المذل من أفغانستان وما تبعه من انهيار سريع للحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في أفغانستان، ومن قبل الانسحاب الأمريكي من العراق والخسائر الكبيرة وترك العراق يقع تحت النفوذ الإيراني.
لم تك جرأة روسيا على غزو أوكرانيا العلامة الأولى على تراجع القوة الأمريكية، ولكنها أعادت الجدل الطويل حول التراجع الأمريكي، إلى حد ادعاء بعض الخبراء والمراقبين أن الولايات المتحدة لم تعد قوة عظمى، مؤشرات تراجع القوة الأمريكية
وفي حقيقة الأمر لا يتعلق تآكل القوة الأمريكية رغم انحسار نفوذها ومكانتها على الأسباب الذاتية، وإنما الأسباب الموضوعية التي تشير إلى صعود قوى أخرى، لا سيما الصين اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وبروز الهند قوة اقتصادية، وعودة روسيا جيوسياسياً وعسكرياً، ومع ذلك فإن تراجع القوة الأمريكية مسألة نسبية.
رغم ترابط الأسباب الخارجية والداخلية لمؤشرات تراجع القوة الأمريكية، فإن الأسباب الداخلية المحلية تبدو جلية وأكثر وضوحاً. فقد تسبب التمدد الأمريكي العسكري وخوض حروب الإرهاب المصطنعة بهدف الهيمنة بنفقات هائلة، سرعان ما انعكست محلياً بضربة موجعة للنموذج الاقتصادي الأمريكي، وهو ما تجلى من خلال الأزمة المالية العالمية للأعوام 2007-2009.
ليس هذا فحسب، فقد تعرض النموذج السياسي الأمريكي خلال رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى هزة ثقة لم يتعاف منها بعد، وربما لن يتعافى منها، حيث الاستقطابات الحادة، مع تنامي النزعات الهوياتية القاتلة، وصعود تفوق العرق الأبيض واليمين المتطرف وتنامي الإرهاب المحلي. لم يقتصر التراجع على الاقتصادي والسياسي، فقد جاءت الطامة الكبرى بفشل النموذج الاجتماعي الأمريكي بالوفاء بوعوده للطبقة الوسطى الأمريكية، وهي العمود الفقري للمجتمع، فقد كشف وباء "كوفيد 19" عن اختلال يتجاوز الحديث عن مجرد أزمة رعاية صحية، كل ذلك أدى إلى بروز مجتمع منقسم حول منظومة القيم واختلال المرجعية وتشتت الأولويات.
تعرض النموذج السياسي الأمريكي خلال رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى هزة ثقة لم يتعاف منها بعد، وربما لن يتعافى منها، حيث الاستقطابات الحادة، مع تنامي النزعات الهوياتية القاتلة، وصعود تفوق العرق الأبيض واليمين المتطرف وتنامي الإرهاب المحلي
ما يحدث في أوكرانيا وما رافقه من حالة الهوس التي سيطرت على ذهنية الرئيس الأمريكي جو بايدن التنافسية، رغم نصائح كبار منظري الواقعية الأمريكية من ميرشايمر وأخيراً كيسنجر، لم يفلح في كبح جموح الغطرسة والتلبس بمتلازمة انكار الواقع، وهو واقع دولي يشير إلى الانهيار النهائي للاعتقاد الذي في ساد خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، بأن الولايات المتحدة في وضع يمكنها من إعادة تشكيل العالم على صورتها، وأهوائها، ومعاييرها المزدوجة حول الديمقراطية والقيم الليبرالية وحقوق الإنسان، والتي كانت تنهار أمام عقيدة الاستقرار الإمبريالية والتوسع والهيمنة. وقد تطلب إدراك ذلك معارك طويلة داخل نخبة واشنطن، عقب سلسلة من الإخفاقات والهزائم في عدد من الأماكن، من العراق وأفغانستان وإيران وصولاً إلى الصين وروسيا.
وقد تنبه سلفا الرئيس جو بايدن، باراك أوباما ودونالد ترامب، إلى مخاطر التوسع العالمي المفرط لأمريكا، وحاولا -بطرق مختلفة إلى حد التناقض- إعادة توجيه الموارد والمخصصات لإعادة بناء القاعدة في الوطن.
تبدو أمريكا اليوم نموذجاً لمجتمع منقسم ممزق، حافل بالتناقضات والتوترات والتعصب وتضارب المصالح، ومتخم بالعنف والتوحش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو ما لم ترممه هزيمة ترامب وصعود بايدن إلى البيت الأبيض، بل ثمة توقعات بحصول أزمة دستورية بعد الانتخابات الرئاسية القادمة والتي قد تعيد ترامب ومن هم على شاكلته إلى السلطة، ويذهب عدد من الخبراء والباحثين إلى الحديث عن احتمال نشوب حرب أهلية أمريكية.
وثمة شكوك حول قدرة لولايات المتحدة على تجديد نفسها، ذلك أن أمريكا اليوم لم تعد تنافس نفسها فحسب، كما حدث بعد نهاية الحرب الباردة، فقد تبدلت الأحوال وكأنما تبدّلَ الخلق من أصله وتحول العالم بأسره، حيث تواجه أمريكا اليوم شكوكا حول مكانتها ومستقبلها زعزعت اليقين ودعة الأيام الخوالي، فقد باتت أمريكا مهددة بفقدانها مكانتها كأكبر اقتصاد في العالم، وربما تخسر معه تفوقها التكنولوجي أيضاً، وهو ما حذر منه وزير الخارجية الأمريكي بلينكن مؤخراً، وأن الصين تسعى إلى فرض هيمنة تكنولوجية، وفي حال تحقق ذلك، فإن العواقب على مكانة أمريكا العالمية ستكون مهولة وهائلة.
ثمة شكوك حول قدرة لولايات المتحدة على تجديد نفسها، ذلك أن أمريكا اليوم لم تعد تنافس نفسها فحسب، كما حدث بعد نهاية الحرب الباردة، فقد تبدلت الأحوال وكأنما تبدّلَ الخلق من أصله وتحول العالم بأسره، حيث تواجه أمريكا اليوم شكوكا حول مكانتها ومستقبلها
يبدو الإدراك الأمريكي النظري متأخراً لجملة التحولات العالمية نتيجة الغطرسة والنشوة، والأهم أنها تأخرت باتخاذ خطوات عملية لتدارك الاختلالات. بدأ ذلك بصورة خجولة في السياسة الخارجية مع الرئيس باراك أوباما -من إعادة التمحور نحو آسيا والمحيط الهادي- ثم إعلان السيد دونالد ترامب بكين خصماً وعدواً، وصولاً إلى هوس الرئيس جو بايدن بعودة تنافس القوى العظمى. فبعد نشوة هجوم العولمة النيوليبرالية السعيدة ونهاية التاريخ وصدام الحضارات، باتت أمريكا في حالة دفاع عن مكانتها كدولة أولى دون منازع، تجاهد بعناد وقوة في مواجهة التحدي الذي تطرحه الصين.
لقد بات عالم أحادي القطب بتفرد أمريكي مطلق من الماضي، فالثنائية القطبية مسألة واقعة، والتعددية القطبية احتمال مثير، وما فعلته روسيا هو الحيلولة دون تحقق الثنائية القطبية بخطوة استباقية كي تجد لها مكاناً تحت شمس العالم الجديد. فقد كان جلياً أن العالم يتجه إلى ثنائية قطبية جديدة بين أمريكا والصين، كما أوضحته صفقة "أوكوس" بشأن الغواصات النووية، وهي اتفاقية أمنية ثلاثية بين أستراليا وبريطانيا وأمريكا، تساعد على تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ لمواجهة نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتغطي الاتفاقية مجالات رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية والأنظمة تحت الماء وقدرات الضربة بعيدة المدى، ويتضمن أيضاً مكوناً نووياً.
إلى جانب صفقة "أوكوس"، هناك المجموعة الرباعية المعاد تنشيطها لبلدان آسيا والمحيط الهادئ، والتوسع المحتمل لتحالف الاستخبارات المسمى "العيون الخمس"، وهو مصطلح يُشير إلى تحالف استخباراتي يشمل كلاً من أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا (الحلف الأنجلو سكسوني الوثيق حسب هنتنغتون)، بموجب المعاهدة البريطانية الأمريكية متعددة الأطراف، وهي معاهدة تختص بمجال التعاون المشترك في استخبارات الإشارات.
وتعود أصول "العيون الخمس" إلى فترة ما بعدَ الحرب العالمية الثانية، عندما أصدر الحلفاء ميثاق الأطلسي لوضع أهدافهم لعالم ما بعدَ الحرب. خلال فترة الحرب الباردة، طور تحالف "العيون الخمس" نظام المُراقبة "إيكيلون" لمراقبة اتصالات الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية، وهو يستخدم حالياً لمراقبة الاتّصالات في جميع أنحاء العالم، فأمريكا منشغلة بإنشاء نظام لاحتواء الصين، المتحدي الرئيسي لأسبقيتها العالمي، وسوف تكون هذه المواجهة هي الصراع على السلطة الجيوسياسية والجيو- اقتصادية والتكنولوجية والأيديولوجية خلال العقود المقبلة.
بعد أن غدت الأحادية القطبية من التاريخ، وتبدل العالم كأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفةٌ وعالَمٌ مُحدَث، فإن هدف روسيا هو أن تبقى لاعباً قائماً بذاته على مستوى عالمي، وحاضرة في صلب مفهوم "القوة العظمى"، وقد شكل ذلك لروسيا أولوية استراتيجية، فالحصول على هذه المكانة والاحتفاظ بها يمثل تحدياً جدياً، وتعتبره روسيا تهديداً وجودياً. إذ يعد غزو روسيا لأوكرانيا عودة إلى القضايا الجوهرية الجيوسياسية، بهدف إلى الحفاظ على نوع من التوازن، رغم إدراك روسيا اختلال الأبعاد وتفاوت المقارنة أمام المواجهة بين أمريكا والصين، لكن ذلك يشير إلى تبدل كبير في بنية العالم.
هدف روسيا هو أن تبقى لاعباً قائماً بذاته على مستوى عالمي، وحاضرة في صلب مفهوم "القوة العظمى"، وقد شكل ذلك لروسيا أولوية استراتيجية، فالحصول على هذه المكانة والاحتفاظ بها يمثل تحدياً جدياً، وتعتبره روسيا تهديداً وجودياً
ورغم تحاشي روسيا والصين تشكيل تحالف مشترك، فإن الشراكة الاستراتيجية بينهما تزداد قوة، حتى إن الرئيس الصيني شي جين بينغ قال مؤخراً إن العلاقة بين البلدين "في قوتها ومتانتها تتفوق على أي تحالف". ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شي بأنه "شريك يُعتمد عليه"، وقال في مقابلة إن شي "ربما هو الزعيم العالمي الوحيد الذي احتفلتُ معه بأحد أعياد ميلادي". ووصف شي بوتين بأنه "أقرب أصدقائي".
خلاصة القول أن النظام أحادي القطبية يحتضر، وسوف يصبح من الماضي، وأن ثنائية أو تعددية قطبية تولد، فالولايات المتحدة الأمريكية كسائر الإمبراطوريات لها أطوار من الصعود والأفول. وقد كشف التاريخ البعيد تلك الحكمة، ومن قريب فإن الدرس الرئيس من زوال الاتحاد السوفييتي هو أن الإمبراطوريات قد لا تهزم من قوة خارجية، لكنها قد تسقط من الداخل حسب ابن خلدون، فالظلم مؤذن يفساد العمران، وأمريكا تعاني من أشكال من الظلم المحلي ما لا يمكن حصره وعده.
لا يزال من المبكر التكهن بمآلات المنافسة بين أمريكا والصين الاقتصادية والتكنولوجية، ومن الصعب الانزلاق نحو المواجهة العسكرية المباشرة، وفي نهاية المطاف لا يمكن أن يلحق أحد الطرفين هزيمة نهائية بالآخر، ولذلك لا حل سوى التسليم بنهاية زمن الأحادية القطبية والإقرار بتعددية قطبية. ومن المرجح أن
النظام العالمي الجديد يفسح المجال لإعادة بناء حضارات دول على أسس مختلفة عن خرافة حضارة عالمية واحدة؛ التي هي عبارة ملطفة للتفوق الأبيض للمركزية الغربية وسياسات الهيمنة والإمبريالية والكولونيالية.
twitter.com/hasanabuhanya