غالبا ما يحكى عن قيمة الدول بمدى تفعيل معايير
الديمقراطية فيها، وأول هذه المعايير
الانتخابات. ولكن، ما جدوى الانتخابات في ديمقراطية توافقية هشة تحكمها الفيدرالية المقنعة، أو ما يسمى بمعيار الميثاقية؟ من هنا يجمع الكثيرون على أن الإجراءات الديمقراطية الشكلية على غرار الأحزاب السياسية، والانتخابات، والمؤسسات السياسية، والتمثيل النسوي، وتمثيل الأقليات؛ تحظى بالنصيب الأكبر من التركيز، ولا يتم الالتفات إلى طبيعة المحتوى الديمقراطي، أي مجموعة المبادئ والمفاهيم التي تشكل مقدمة أساسية للإجراءات الديمقراطية المتقدمة.
من هنا، جاءت الانتخابات
اللبنانية البرلمانية مثالا صارخا على واقع نتائج فرز نتائج مختلفة؛ إن على صعيد انتخابات رئاسة المجلس النيابي أو نائب الرئيس وهيئة مكتب المجلس، فتناحرت الأكثرية المتنقلة المتأرجحة، وفازت الأقلية المجتمعة.
وتشير الكثير من التقارير الدولية والأبحاث في مجالات الديمقراطية إلى أن الإجراءات الديمقراطية الشكلية، لا يمكن أن تنتج ديمقراطية حقيقية، وهنا بيت القصيد في هشاشة الديمقراطية اللبنانية التوافقية الإبداعية. وعليه، لا بد من الانتباه إلى أن مفتاح أي ديمقراطية حقيقية، لا بد أن يبدأ بمعادلة ميزانها حكم القانون الذي يتصدر الأولويات، فهل ما يجري في كل المؤسسات القضائية في لبنان وكثير من دول العالم العربي يضع القانون على رأس كل الأمر؟! الجواب معروف وسنستعرضه من خلال مجموعة مؤشرات اجتماعية واقتصادية وسياسية لقياس الدول الفاشلة/ الهشة، وهو ما تعتمد عليه كبرى المؤسسات المعنية في قياس فعالية الديمقراطية، ومن أبرز هذه المؤشرات ما يلي:
أولا: فقدان شرعية الدولة عبر فساد النخبة الحاكمة، وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية، وضعف الثقة في المؤسسات وفي العملية السياسية، مما يزيد مقاطعة الانتخابات وانتشار التظاهرات والعصيان المدني. ولعل غياب أكثر من نصف الشعب عن الاقتراع في 15 أيار/ مايو المنصرم، دليل ساطع الوضوح.
ثانيا: التدهور الحاد في تقديم الخدمات العامة، حيث لا تؤدي الدولة وظائفها الجوهرية مثل حماية الناس، والصحة والتعليم والتوظيف، ولنا في ملفات الكهرباء ما لا ينتهي فيه الحديث عن هدر فاق 40 مليار دولار ولا كهرباء، وآخرها في الجلسة الحكومية الأخيرة، عندما سُحب ملف الكهرباء بسحر ساحر. وأمامنا صيف حار بكل المقاييس!
ثالثا: الحرمان من التطبيق العادل لحكم القانون وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان عبر قوانين الطوارئ، والاعتقال السياسي، والعنف المدني، وغياب القانون، وتقييد الصحافة، وخوف الناس من السياسة. وهنا يشير الكثيرون إلى خطورة سياسة التضارب بين المؤسسات والخوف من ضعف إقبال الناس على الإيمان بالقدرة على التغيير، حيث القرف السياسي الممزوج بلعنة الأيام، مع طبقة سياسية واقتصادية ومالية فاسدة على الأرجح، لا زالت اللاعب الأقوى بعد كل ما جرى ويجري، وكأن الظروف المحيطة هي في وطن آخر، أو ما يعرف بـ"لالا لاند".
رابعا؛ إن تشتت الأمن قد يخلق دولة داخل الدولة، مع ظهور النزاعات المسلحة، وظهور قوة أمنية توازي الأمن النظامي للدولة. وهنا الحديث يطول للتعبير عن مسارات الأمن والديمقراطية والوظائف السيادية في بلد كلبنان، بلد الاستثناءات المبررة وغير المبررة والمقوننة وغير المقوننة، التي على ما يبدو ستكون مادة دسمة في حياة مجلس النواب الجديد!!
خامسا: تنامي الانشقاقات داخل النخب بالدولة، والانقسام بين النخب الحاكمة ومؤسسات الدولة، واستخدام النخبة الحاكمة لنغمة سياسية قومية، تذكر بتجارب وحدوية قومية. أما في لبنان، فالتذكير أخطر، عبر المنطق الطائفي والمذهبي وأكثر، وما حملات التسعير إبان الانتخابات وعند نتائجها إلا تأكيد على هشاشة الأحزاب والأفراد، بالعودة دائما إلى شد العصب الطائفي!!
سادسا: تدخل دول أخرى أو فاعلين سياسيين خارجيين عبر التدخل العسكري أو شبه العسكري داخليا في الدولة أو جيشها أو جماعات فرعية بها، وتدخل قوات حفظ السلام والقوات الدولية. وهنا الحديث يطول، فمنذ الاستقلال في 1943 ومعزوفة القوات الأجنبية التي تسرح وتمرح باختلاف مسمياتها لا تزال قائمة، ولكل فئة فتوى تخص أولويتها حسب القطعة والزمان والمكان.
وبعد استعراض جملة المعايير السابقة لبنانيا وبالمقارنة مع التقرير السنوي لعام 2021 لمؤشر الدول الفاشلة/ الهشة، صنفت الدول إلى أربعة تصنيفات: دول مستدامة، ودول مستقرة، ودول في حالة تحذير، ودول في حالة إنذار. وضمن هذا التصنيف الرباعي، هناك تصنيفات فرعية أيضا، على سبيل المثال فيما يتعلق بالدول في حالة الإنذار، يتم تصنيفها إلى: دول في حالة إنذار، ودول في حالة إنذار متقدمة، ودول في حالة إنذار قصوى.
وفي تقرير العام 2021 وقياسا إلى دول المنطقة، صُنف لبنان في المركز 34 أي بين الحكومات الأكثر فشلا، أي ضمن الدول القابعة في حالة التحذير المتقدمة. وعليه، إن كل المؤشرات تشير إلى تراجع مخيف على جميع المستويات.
فوفقا للأرقام الصادرة عن العديد من المؤسسات الدولية المعنية، تبلغ نسبة الفقر في لبنان اليوم حوالي 75 في المائة، أي إنها أعلى من معدلاتها في العام 2019 التي بلغت فيه 41 في المائة وهي بذاتها طامة كبرى! أما البطالة فالأرقام تفوق 40 في المائة، وأغلبها بين الشباب الحالم بالهجرة.
أما القطاعات التعليمية، فهي في أزمة خانقة في قطاعيها الرسمي والخاص، والخوف منذ اليوم على العام الدراسي القادم (2022/2023)، والعملة الوطنية تلفظ أنفاسها بخسارة 90 في المائة من قيمتها، والتضخم يضرب كل شيء ويأكل القدرة الشرائية للمواطنين، والحالة الاستشفائية كارثة الكوارث في ضعف المستشفيات وهجرة الكوادر الطبية وغلاء الفاتورة الطبية. وعليه، حالة التدهور مستمرة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فهل إلى خروج من سبيل؟!!
واقع الأمر يؤكد أن نتائج الانتخابات بهذه الصورة لن تشكل مفصلا لدى الناس أو حتى المجتمع الدولي المنهمك في الحدث الروسي- الأوكراني، وأزمة التضخم العالمي، وأزمة الغذاء العالمي وخطر المجاعة في العديد من الدول.
وعليه، فإن انتخابات في ديمقراطية لدولة هشة لن تضيف للمشهد السياسي إلا مزيدا من التعقيد في الداخل، ولنا في انتظار تسمية رئيس الحكومة وتأليفها مسار طويل على ما يبدو، على غرار التأليفات السابقة التي استمرت شهورا، علما أن اللاعبين الدوليين لا زالوا يستعجلون التكليف والتأليف معا!!
mmoussa@mees.com