«نجِّنا من الشر»، العبارة من بين أكثر الأدعية لدى المسيحيين المألوفة وأقدمها. يشعر معظمنا بالقلق حيال استخدام كلمة «الشر»؛ لأن البالغين يعرفون جيداً أن القليل من القضايا، أو في الواقع: الأشخاص، يمكن وصفهم بحق بأنهم خيّرون تماماً، أو بأنهم شيء آخر، وبدلاً عن ذلك تنتمي الغالبية إلى نقطة ما بين الاثنين.
ومع ذلك، يبدو من الصعب اعتبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أي شيء آخر سوى قوة غير خيِّرة، ذلك أنه -كما يقال في الغرب- يتحمل المسؤولية عن آلاف من الوفيات في أوكرانيا، من خلال شن عملية عسكرية غير مبررة، وأنه مصمم لتحقيق رؤية للكبرياء وطنية وشخصية، لا أساس لها في القانون أو الأخلاق.
وعلى القدر ذاته من البشاعة، من خلال وقفه شحنات الحبوب الأوكرانية، فإنه يتسبب في نشر الجوع، ويهدد بالتسبب في مجاعة داخل مساحات متزايدة من نصف الكرة الجنوبي.
ولهذا السبب، فإنه من المؤلم القول إنه من الصعب رؤية نتيجة للعمليات الجارية يمكن أن تشكل عقاباً للرئيس الروسي وأمته، أو نتيجة تعيد لشعب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأمن والازدهار اللذين يستحقهما.
في بريطانيا اليوم، تبدو العواطف أعلى من أي دولة أوروبية أخرى، باستثناء بولندا ودول البلطيق.
ويتعرض الناس مثلي الذين يؤكدون شكوكهم بشأن احتمالات النصر الأوكراني، للاستهزاء على نطاق واسع، باعتبارهم «واقعيين متطرفين» على أفضل تقدير، ومتملقين على أسوأ تقدير.
ويحاول بوتين إثبات قدرته على استغلال العنف الشديد لضمان دور أكبر بكثير على المسرح العالمي، يتناسب مع مكانة روسيا الاقتصادية والسياسية.
ويتحدى الزعيم الروسي بازدراء الروح السلمية لدول مثل ألمانيا، العملاق الصناعي لأوروبا، والتي عرَّفت نفسها بأنها تمثل ما تسمى «القوة المدنية».
ضد هذه النزعة السلمية المعلنة، يشن بوتين نوعاً جديداً من الحرب غير المتكافئة. على المدى الطويل، لا يمكن لأي جهد أخرق للقوة أن يحل محل النجاح الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن القول بأن الفارق الجوهري بين بروسيا بسمارك وروسيا بوتين، أن جيش الأول كان مدعوماً من دولة صناعية صاعدة، في حين أن الجيش الأخير كان قوة عظمى في الأمس. وتكشف الأرقام أن الناتج المحلي الإجمالي لدول منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) مجتمعة يقارب 30 ضعف مثيله في روسيا، وإنفاقها الدفاعي يبلغ 15 ضعف ما ينفقه الكرملين.
ومع ذلك، فإنه من أجل مواجهة عملية بوتين العسكرية في أوكرانيا، تحتاج أوروبا إلى تحرير نفسها من عبوديتها للطاقة الروسية وإعادة تسليح نفسها. وكلا الإجراءين يتطلبان وقتاً يتقدم خلاله جنود بوتين في منطقة دونباس. بدءاً من الآن، حتى أفضل الحلفاء الأوروبيين تسليحاً، أو الأقل ضعفاً (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) سيحتاجون شهوراً للدفع بفرقة واحدة قادرة على خوض القتال إلى ميدان المعركة. ولا غنى هنا عن قوة الولايات المتحدة والتزامها.
على المدى القريب، يميل الاحتمال الأكبر إلى نجاح سياسة الدم والحديد التي ينتهجها الرئيس الروسي؛ لأنه حتى الجيش الروسي المتخبط يبدو أقوى من الجيش الأوكراني.
وتتولى روسيا تحصين الأراضي التي استولت عليها. وعلى الرغم من الخسائر المذهلة التي تكبدها جيشها وضعف الروح المعنوية، فلا يزال لدى بوتين مخزون من الأسلحة غير المستخدمة، وبعضها مروّع. في الواقع، فقط التدخل العسكري الغربي المباشر هو القادر على خلق إمكانية قلب الاحتمالات بشكل حاسم ضد روسيا.
ثمة حجة قوية اليوم تدعو إلى مرافقة سفن الولايات المتحدة الحربية وحلفائها السفن التي تحمل الحبوب الأوكرانية من وإلى أوديسا، متحدية بوتين لإطلاق النار عليها. في الوقت الحالي، تبدو إدارة الرئيس جو بايدن متخوفة من اتخاذ هذه الخطوة التي ربما تعجل بإشعال حرب عامة. ويكاد يكون في حكم المستحيل أن تبدي القوات الأميركية التزاماً مباشراً تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا.
ويعتقد عديد من الأميركيين -ليس جميعهم من الجمهوريين- أن بلادهم تضع كثيراً من الرهانات بالفعل داخل أوروبا، في حين تظل الصين الخصم الأكثر خطورة. وجراء الإحباط الذي أصاب الأهداف الوطنية على مدى عقدين من الزمن، في العراق وليبيا وأفغانستان، يبدو المتشككون غير مستعدين لرؤية الولايات المتحدة تلتزم مرة أخرى بصراع فوضوي في بلد بعيد على نحو يكلف الدماء والأموال، في الوقت الذي يضمن فيه الأمر القليل من المجد لواشنطن.
المؤكد أن بوتين الذي يفكر كالمعتاد على نحو بعيد النظر، يبني حساباته على أن الانتخابات الرئاسية لعام 2024 ستعيد إلى البيت الأبيض إما الرئيس السابق دونالد ترمب وإما صورة مستنسخة منه، يعارض أي تدخلات عميقة -أو ربما أي تدخل على الإطلاق- في أي مواجهة أوروبية أمام روسيا.
ومن شأن انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا، أن يترك أوكرانيا معتمدة على الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي الأوروبي، وهي احتمالية تبدو بائسة بالفعل، بالنظر إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تقدم أكثر من 80 في المائة من المساعدات التي تحصل عليها أوكرانيا. في الوقت ذاته، فإن معظم أوروبا في أمسّ الحاجة إلى التوصل لتسوية من شأنها نزع فتيل أزمة الطاقة قبل حلول فصل الشتاء.
وبغض النظر عن الصور التي يجري تبنيها للحفاظ على واجهة الوحدة القارية في مواجهة الرئيس الروسي، ليس ثمة شعور حقيقي بالوحدة والتماسك وراء خطاب معظم الحكومات الأوروبية.
من جهتها، ضحت بريطانيا بكل نفوذها على زعماء القارة عندما انسحبت من الاتحاد الأوروبي، وهو إجراء نعلم جميعاً أنه شجع الكرملين بشكل كبير؛ لأنه سلط الضوء على الضعف والانقسام في صفوف الأوروبيين. أما فرنسا، فتبدو غير مستعدة على نحو غير عادي للانفصال بشكل حاسم عن روسيا.
واليوم، بمقدورنا أن نرى ونحتفل بالحكمة الكبيرة لتشرشل، عندما استوعب حقيقة أن النازية مثلت شراً مطلقاً، بحيث لا يمكن المساومة مع قادتها، وأنهم تجب محاربتهم حتى النفس الأخير، حتى وإن بدا ذلك للبعض منافياً للعقل.
وقد أكدت في البداية أن بوتين يمثل هو أيضاً الشر -وكذلك جنون العظمة كما يقال- وعليه فإن هناك حجة مبدئية تفرض نفسها، مفادها أنه يجب علينا اتباع مثال عام 1940، من خلال الاستمرار في الإصرار على أنه لا شيء أقل من هزيمة روسيا وإخراجها من أوكرانيا يمكن أن يشكل نتيجة مقبولة. والحقيقة أن الأشخاص الذين أكن لهم كل الاحترام في بريطانيا والولايات المتحدة وكذلك في كييف، يلتزمون هذا الرأي.
(الشرق الأوسط اللندنية)