كلما راهن البعض على نهاية غير سعيدة للجزائر وعلى تدهور الأوضاع بها إلا وحدث بها العكس تماما.. عناية إلهية لا شك فيها لهذا البلد الذي سقت أرضَه دماءُ ملايين الشهداء لتبقى رايته عالية في وجه أعداء التاريخ والدين والحضارة الذين ما انفكوا يحاولون المرة تلو الأخرى الانحراف بدوره الحاسم في الدفاع عن الجناح الغربي لخير أمة أخرجت للناس.. منذ المحاولات الإسبانية الفاشلة للانتقام من مسلمي الأندلس الذين احتموا بالسواحل الجزائرية بعد سقوط غرناطة 1492، إلى المحاولات الفرنسية الإبادية لإنهاء وجود الأمة الجزائرية بمقوماتها الوطنية والدينية، استمرت الجزائر تعود في كل مرة كقوة ودور وهيبةٍ وحصنٍ منيع تتكسر على أسواره جميع أشكال الاعتداء وجميع محاولات الاستيلاء.
لم يبق أي أثر اليوم للحملات الإسبانية على شواطئنا ومحاولة إفناء المورسكيين الذين شيدوا مع أسلافهم المسلمين داخل أوروبا حضارة من أرقى الحضارات مازالت آثارها إلى اليوم باقية، وهي التي مكنت الغرب من آخر علوم بداية الألفية الثانية التي بفضلها صنع نهضته الحديثة.. وها هو اليوم الاستعمار الفرنسي الجديد يترنح وهو يفقد الكثير من مواطن قدمه الظاهرة والباطنة في هذا البلد الواحدة تلو الأخرى.
لقد فشلت جميع محاولاته في التغريب والتقسيم والتطبيع وسيفشل أكثر.
بقي الشعب الجزائري متمسكا بأصالته ووحدته وقيمه الرافضة للظلم والاستعلاء رغم كل محاولات التشكيك في هويته، وبأن دماءه امتزجت عبر التاريخ في كنف مثله العليا التواقة للعدل والحرية والسلام.
دفع الثمن غاليا في العشرية السوداء جراء استخدام واسع لمؤامرة حيكت بإحكام لضرب أفراد الشعب الواحد بعضه ببعض، وانتبه الجميع في الأخير إلى خلفيتها الاستعمارية الجديدة وأبعادها التدميرية، وتصالح الإخوة فيما بينهم بعد معاناة دامت قرابة عشر سنوات.. وحاولت قوى الإستدمار جره إلى صراع داخلي آخر في السنوات الأخيرة تحت عنوان نشر قيم الديمقراطية الليبرالية والانخراط في عالمية حقوق الإنسان على الطريقة الغربية، وفشلت في ذلك.
وتبيَّن في الأخير أن أصل الفساد الذي عمَّ البلاد، وأصل المسخ والطمس لمعالم الشخصية الوطنية إنما هم بقايا الاستدمار الذين ركبوا موجة الغضب الشعبي ولبسوا لباس المناصر له والمتعاطف معه.
وانتصرت الجزائر على هذه المحاولة الأخيرة، التي أخذ الصراع فيها أشكالا جديدة لم تعهدها من قبل، واستخدمت فيها جميع تكنولوجيات الاتّصال والإعلام لِقَلب المفاهيم وتغليط الرأي العام باتجاه خلق أجواء من الاضطراب تُمكِّن قوى التغريب والاستعمار من التحكم في زمام الأمور عقودا قادمة من الزمن.
واليوم باتت بلادُنا على عتبة الانطلاق نحو أفُق أرحب بعد ستين سنة من افتكاك السيادة الوطنية، فكيف لا يُغيض هذا أعداء الأمس ولا يحاولوا تعكير أجواء شعب تراه يفرح في زمن متقارب ثلاث مرات: بعيدِه الوطني الذي يرمز إلى تاريخه وكفاحه المستمر، وبعيد الأضحى الذي يرمز إلى تمسكه بدينه وشخصيته وقيمه، وبعيدٍ رياضي متوسطي يرمز إلى عيد الشباب ويُبيِّن مدى حيوية وقدرته على الانتصار.
إن بلادنا اليوم على عتبة الخروج إلى أفق أرحب، وعلى قيادتها الوطنية، الاستعداد بإرادة وحزم للقادم من التهديدات والمخاطر، ونزع فتيل كل ما من شأنه زعزعة الجبهة الداخلية من خلال تعميق سياسة لَمِّ الشمل المُعلَن عنها وتصويب سياسات البناء الوطني المختلفة وتمكين جيل الغد من الأخذ بزمام المبادرة في كافة المجالات على خطى أسلافهم الذين حافظوا على مكانة هذا البلد ودوره وشخصيته.