عمّقت الحرب في أوكرانيا من أزمة منطقتنا، التي كانت تخرج لتوّها من وباء كورونا الذي خلخل أركان الاقتصاد العالمي، وعزّزت أيضا حالة الركود التي تسبب فيها الوباء.
تعقّد المشهد في المنطقة بشكل باتت معه عملية التنبؤ باتجاه الأحداث أكثر صعوبة واستحالة. ورغم ما تبدو عليه الأزمة الأوكرانية من بُعد جغرافي يغري البعض بالنظر إليها كحدث خارج فضائنا الجغرافي، ولا أثر له على منطقتنا، فلا أحد يمكنه أن يتجاهل أن أطراف الحرب المباشرين وغير المباشرين، في مجملهم هم من الأطراف الفاعلة والمؤثرة في منطقتنا بأشكال مختلفة.
وينطبق هذا الوضع على روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية والناتو وتركيا والصين فضلا على أوكرانيا نفسها. فالحرب في أوكرانيا، ظاهرها حرب بين موسكو وكييف، وجوهرها، صراع جبهتين: روسيا وامتداداتها الجيوسياسية وتحالفاتها من جبهة، والغرب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا من الجبهة الأخرى.
بين الحضور الأميركي المتراجع والمرتبك، وبين التقدم الصيني والروسي، وجدت أنظمة المنطقة في هذه المتغيرات فسحة للمناورة والتحرك دون ضغوط أو إكراهات خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي باتت قيما باهتة بل لا تكاد تبين، في الخطاب والسلوك الأميركي والأوروبي، وطبعا غير متوقعة أصلا في السلوك الصيني والروسي.
فمنطقتنا اليوم عرضة لتحولات نوعية، كانت قد انطلقت مع ثورات 2011 ولم تسفر بعد عن مآلاتها. ويمكن رصد بعض المحددات الأساسية التي سيكون لها التأثير في أوضاع المنطقة، التي لا تزال في عين العاصفة.
أولا: الوضع الدولي
لا أحد يمكنه أن ينكر أن الوضع الدولي، قوى فاعلة وتوازنات دولية، من المحددات الأساسية في رسم الوضع العام في المنطقة، قد يتفاوت تأثيره من مرحلة إلى أخرى، لكنه معطى ثابت في ظل النظام الدولي القائم. فالخارج في وضع منطقتنا بمثابة العامل الداخلي، بل يرجح أحيانا على العوامل الداخلية.
ولقد سهّل الموقف الأميركي الراهن المتسم بالتردد والانكفاء، تقدم قوى دولية أخرى وإحداث اختراقات معتبرة بمستويات متعددة، سياسية وعسكرية واقتصادية في المنطقة. فمضت الصين بالتمدد في المنطقة عبر طريق الحرير الجديد، واستثمرت في المنطقة بأكثر من 300 مليار دولار. وقد أغراها الانكفاء الأميركي بإقامة قواعد عسكرية في أفريقيا والسيطرة على موانئ حيوية، حتى بدت الشريك المفضل لدى العديد من دول المنطقة.
وبين الحضور الأميركي المتراجع والمرتبك، وبين التقدم الصيني والروسي، وجدت أنظمة المنطقة في هذه المتغيرات فسحة للمناورة والتحرك دون ضغوط أو إكراهات خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي باتت قيما باهتة بل لا تكاد تبين، في الخطاب والسلوك الأميركي والأوروبي، وطبعا غير متوقعة أصلا في السلوك الصيني والروسي.
وقد ظهر ذلك جليا في مواقف بعض دول العربية بما في ذلك الخليجية، التي أبدت تمنّعا من الانخراط بالمطلق في الموقف الأميركي الغربي ضد روسيا، في الحرب الأوكرانية.
فالصراع الدولي الذي تتكثّف معالمه اليوم في الحرب الأوكرانية، وإن بدا محدودا في الجغرافيا، فإنه صراع تتسع ملامحه ومستوياته وتتناثر شظاياه العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والسياسية وحتى الإنسانية لتصيب أركان الكرة الأرضية.
وهذا الصراع الذي عزّز تراجع هيمنة الولايات المتحدة الأميركية لصالح تدافع متعدد الأطراف، وأقطاب متنافسة، تبدو فيه قوى دولية كبرى "تتقاسم" مناطق النفوذ في العالم، ولم تعد فيه واشنطن مطلقة اليد.
بيد أن هذا التدافع وإن كان فرصة حقيقية للقوى المتطلعة للتغيير للاستفادة منه، فإن المخاوف تبقى قائمة على اعتبار أن جل الفاعلين، يصدرون عن أنظمة غير ديمقراطية، فلا روسيا ولا الصين توليان أهمية لفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما تفضّل الأنظمة القوية التسلطية، التي تفرض الاستقرار وتحافظ على المصالح المتبادلة.
ثانيا: مخطط الاندماج العربي الإسرائيلي
لا شك أن "الصراع" العربي الإسرائيلي، أحد المحددات الأساسية لوضع المنطقة وحالتها. وإذا كانت السياسة الدولية تجاه هذه المنطقة قد قامت على مدى عقود على ضبط الأنظمة العربية أو ردعها وترويضها، تأمينا لإسرائيل وحماية لها، فإنها انتقلت اليوم إلى إستراتيجية الدعم الموجه والمحدد للأنظمة العربية، بغرض تحفيزها على التطبيع مع إسرائيل والتعاون لإدماجها في النظام الاقتصادي والأمني والعسكري للمنطقة.
فهناك سعي حثيث لترويض المنطقة وتقليم "أظافرها" المهترئة أصلا، من أجل تسهيل عملية إدماج الكيان الإسرائيلي، بعد عملية تطبيع تجري بنسق متسارع، ومتعدد الجبهات والمستويات. وليس خافيا أن تمرير هكذا مخطط يقتضي إزالة واستبعاد كل العراقيل والقوى التي يمكن أن تقف في طريقه.
لذلك بدا مشروع استبعاد قوى التغيير، لا سيما الرافضة للكيان الصهيوني، بل وضربها أحد الشروط الأساسية للمضي في تنفيذ هذا المخطط الهادف إلى القطع مع معادلة الصراع العربي الإسرائيلي باتجاه التطبيع العربي الإسرائيلي، وصولا إلى الاندماج العربي الإسرائيلي.
وقد نصت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي وضعتها إدارة بايدن في مارس/آذار 2020 صراحة على أن الأولوية في السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، هي ضمان أمن إسرائيل والعمل على اندماجها في المنطقة، مع ضمان تفوقها العسكري. ويبدو الحرص الأميركي والحماس لإدماج إسرائيل في نسيج المنطقة، استغل شماعة الخطر الإيراني في المنطقة لإطلاق فكرة تحالف إقليمي تقوده واشنطن، ويتخذ شكل "ناتو جديد" في المنطقة.
لا شك أن التعثر الذي شهدته الثورات العربية التي بدأت من تونس في 2011 وإن بدا باعثا على التشاؤم والإحباط أحيانا، فإن المنطقة التي شهدت هذه الانتفاضات العارمة، لا تبدو استقرت لصالح الثورات المضادة أو القوى المتمنعة على التغيير. فجل بلدان المنطقة اليوم لا تزال فيه الأسباب التي أدت لانتفاضة الربيع العربي قائمة، بل وتفاقمت
بيد أن هذا المخطط سيمثل عامل تفجير وتغذية للصراع وليس العكس، في ظل السلوك الإسرائيلي الاستيطاني، وعدوانيتها المستدامة، فضلا عن الرفض الشعبي له، حتى وإن انخرطت في هذا المخطط الاندماجي لإسرائيل الكثير من الأنظمة العربية اليوم، فالتطبيع في جوهره علامة واضحة على اهتراء وتآكل شرعية هذه الأنظمة وهذه الدول، التي باتت بحكم فشلها الشامل، تبحث عن شرعية خارجية، تستعيض بها عن شرعية داخلية مفقودة وفي أحسن الأحوال هشة.
انهيارات دولية كبرى: العالم إلى أين ومن سيربح؟
"سلّة خبز العالم": حصار روسيا لا يجوّع سوى فقراء الكون