كشف الرئيس التونسي قيس سعيد عن مشروع الدستور الجديد الذي يتضمن 142 فصلا، تمثل بالفعل منظوره للحكم وتصوره للسلطة ونظرته للديمقراطية ولمبدأ الفصل بين السلطات، وتصوره لمكانة الدين الإسلامي في الدستور.
يمكن اختصار هذا التصور في نموذج رئاسي مهيمن على جميع مؤسسات الدولة، ولا مكان فيه لمبدأ الفصل بين السلطات على مستوى رئاسة الجمهورية، وإنما يسري هذا المبدأ فقط على العلاقة بين البرلمان والقضاء اللذين سحبت منهما صفة السلطة، وأصبحا مجرد مؤسسات تقوم بوظائف محددة. أما السلطة، فهي في نظره بيد الشعب الذي لا يستطيع ممارستها بشكل مباشر، وإنما يفوضها لرئيس يتمتع بصلاحيات فوق السلطة، سيصبح في النهاية هو محور النظام السياسي التونسي، الذي يمكن تصنيفه بسهولة بعد استفتاء 25 تموز (يوليو) المنتظر ضمن دائرة الأنظمة السلطوية، التي يمكن أن تصل إلى درجة الدكتاتورية.
نحن اليوم أمام مشروع دستور جديد ولسنا أمام مراجعة عادية للدستور السابق، وهو ما يؤكد أن الرئيس قيس سعيد، حتى وإن جاء إلى رئاسة الدولة بطريقة ديمقراطية، فإنه انقلب على قواعد النظام السياسي والدستوري الذي انتخب على أساسه، وهو ما لا يعطيه الحق في التقدم بوثيقة دستورية جديدة
لقد استثمر قيس سعيد في خطاب شعبوي نجح في تضليل الكثيرين ممن فقدوا الثقة في النخب السياسية، التي أدارت مرحلة ما بعد سقوط نظام بن علي بالكثير من الخلاف والحسابات السياسية التكتيكية، ورغم نجاحها في تمكين البلاد من دستور ديمقراطي، فإنها فشلت في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلد، ولم تنجح في الاستجابة لانتظارات المواطنين والمواطنات في العيش الكريم.
بالإضافة إلى احتقان الوضع الداخلي، استغل الرئيس الجديد الظرفية الدولية والإقليمية المعاكسة للديمقراطية، وطور خطابا شعبويا اختزل الأزمة السياسية في تونس في مواجهة ما يصفه بالفساد، معززا في النهاية محورية شخصه في قلب النظام السياسي التونسي، ومنهيا بذلك قصة الاستثناء التونسي في المنطقة العربية.
وبغض النظر عن السياق السياسي الذي أفرز مشروع الدستور، وعن حجم الملاحظات الفنية والقانونية التي يمكن تسجيلها حول المشروع الجديد، وعن مآلات هذا الدستور في ظل الرفض الواسع له وحجم الاحتقان الذي تسبب فيه، فإن هذه المقالة ستسلط الضوء على الجانب الشكلي أو الطريقة التي تم بها وضع الدستور الجديد، وهي طريقة فريدة تعيد التذكير بأسلوب المنحة في وضع الدساتير الذي اشتهرت به دساتير ما قبل الديمقراطية الليبرالية، والموضوع الثاني الذي سجل غرابة داخل الدستور هو الصيغة التي وردت بها مكانة الدين الإسلامي في الدستور.
أما الجانب المتعلق بتضخم سلطات الرئيس، فقد نبه إليه الكثيرون بمن فيهم من شاركوا في صياغة مسودة المشروع، وهذا من الغرائب التي ميزت قصة دستور قيس سعيد، الذي يبدو غير مكترث بهذه الأصوات التي أنهت مهمتها التي طلبت منها (وطبعا لا حاجة للتذكير بأن الصادق بلعيد كان من أول الشخصيات التي دعت إلى تعليق العمل بدستور 2014، حيث سبق له أن دعا إلى تعليق العمل بالدستور، مصرحا بكل وضوح أنه "لم يحن بعد وقت الديمقراطية بتونس"، ولذلك فإن تصريحاته اليوم لا مصداقية لها)، ولا حق لها ـ في نظره ـ في الاعتراض على الصيغة النهائية ما دام دورها استشاريا فقط، ولا سلطة لها في وضع الدستور الذي انفرد قيس سعيد بصياغته ومنحه للشعب التونسي مذيلا بديباجة إنشائية كتبت بلسان الشعب، متحديا بذلك جميع المؤسسات الوسيطة من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني، ورافضا أي نقاش لمشروع الدستور الذي جرى وضعه ليدخل حيز التنفيذ يوم 26 تموز (يوليو).
دستور ممنوح امتثالا لشعار: الدولة أنا، وأنا الدولة
"الدولة أنا وأنا الدولة" مقولة تنسب للملك الفرنسي لويس الرابع عشر الذي حكم فرنسا 54 عاما بين 1661- 1715م، في إطار ملكية مطلقة مثلت نموذجا للاستبداد السياسي في سياقات تاريخية مظلمة. ويبدو بأن هذه المقولة المشحونة بمعاني التماهي بين الدولة وشخص الحاكم، هي الشعار المؤطر لفلسفة قيس سعيد في الحكم. ولذلك لم يكن من الممكن لمن هو متشبع بهذه الفلسفة أن يحافظ على دستور ديموقراطي، تمت مناقشته أزيد من سنتين داخل مجلس وطني منتخب ديموقراطيا من طرف الشعب عن طريق الاقتراع العام المباشر، جسد ـ بحق ـ نموذجا لأفضل الطرق المتعارف عليها في وضع الدساتير، ويتعلق الأمر بسلطة تأسيسية أصلية منتخبة من قبل الشعب بطريقة ديموقراطية.
من المعلوم أن طرق وضع الدساتير المكتوبة تختلف باختلاف الدول وظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبدرجة قربها أو بعدها عن تبني النظام الديموقراطي، ولذلك درج الفقه الدستوري على تصنيف طرق وضع الدساتير بناء على المعيار الديموقراطي. لكن، من خلال متابعة المنهجية التي جرى اتباعها في تونس، يظهر جليا أننا أمام أسلوب المنحة الذي يعتبر أبعد أسلوب عن المنهجية الديموقراطية، بخلاف دستور 2014 الذي كان محصلة نقاش طويل بين أعضاء هيئة تأسيسية منتخبة من طرف الشعب، ومعبرة عن مفهوم الإرادة العامة.
نحن اليوم أمام مشروع دستور جديد ولسنا أمام مراجعة عادية للدستور السابق، وهو ما يؤكد أن الرئيس قيس سعيد، حتى وإن جاء إلى رئاسة الدولة بطريقة ديمقراطية، فإنه انقلب على قواعد النظام السياسي والدستوري الذي انتخب على أساسه، وهو ما لا يعطيه الحق في التقدم بوثيقة دستورية جديدة، مما يؤكد بالفعل أننا أمام فرضية الانقلاب على النظام السياسي والدستوري، واستغلال موقعه في السلطة للقيام بتغيير النظام السياسي ضدا على إرادة الشعب وتمثيليته الشرعية التي يجسدها البرلمان.
ويقصد بالمنحة كأسلوب لوضع الوثيقة الدستورية، انفراد السلطة الحاكمة بوضع الدستور دون مشاركة أو مساهمة من قبل الشعب، ويسمى الدستور في هذه الحالة بالدستور الممنوح؛ لأنه يعتبر منحة وهبة من قبل الحاكم الذي قام بشكل إرادي بهندسة السلطة داخل الوثيقة الدستورية، بما ينسجم مع أغراضه وأهدافه.
وقد ظهر هذا الأسلوب في النماذج التي كانت السيادة الشعبية فيها تتجسد في شخص الحاكم الفرد (قد يكون ملكا أو امبراطورا أو قيصرا)، الذي يقرر بمحض إرادته الانتقال من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري، ويختار أسلوب الدستور الممنوح الذي يحدد سلطات الدولة واختصاصاتها، ويبين ما يمنحه الحاكم للشعب من حقوق وحريات، مع الاحتفاظ للحاكم بمكانته المحورية في هندسة السلطة داخل الدستور.
وتأكيدا لفكرة المنحة الخالصة، عمل العديد من الملوك على تضمين هذا المعنى في ديباجة الدستور تذكيرا للرعية على أن وضع الدستور صدر عن إرادتهم المنفردة دون إكراه أو إجبار من أي جهة، وهذا ما نقرؤه في العديد من الدساتير مثل دستور فرنسا الصادر في 4 حزيران/يونيو 1814 الذي يقرر فيه الملك لويس الثامن عشر في الديباجة ما يلي:
"لقد عملنا باختيارنا وممارستنا الحرة لسلطتنا الملكية، ونمنح ونعطي، تنازلا وهبة لرعايانا، وباسمنا وبالنيابة عمن يخلفنا، وإلى الأبد، العهد الدستوري الآتي..."، وأيضا دستور مصر الصادر بالأمر الملكي في 19 نيسان/أبريل سنة 1923 حيث صدّر الملك هذا الدستور بالعبارة التالية: "نحن ملك مصر، بما أننا منذ تبوأنا عرش أجدادنا وأخذنا على أنفسنا أن نحتفظ بالأمانة التي عهد الله تعالى بها إلينا، نتطلب الخير دائما لأمتنا بكل ما في وسعنا، ونتوخى أن ندرك بها السبيل التي نعلم أنها تفضي إلى سعادتها وارتقائها وتمتعها بما تتمتع به الأمم الحرة المتمدنة...أمرنا بما هو آت..."، وأيضا دستور إثيوبيا الصادر سنة 1931 حيث جاء في الديباجة: دون أن يطلب منا أحد ذلك، فقد قررنا بإرادتنا الخاصة إصدار هذا الدستور".
وبطبيعة الحال، هناك الكثير من الدساتير الممنوحة وغيرها التي تعتبر من الناحية النظرية صادرة عن الإرادة المنفردة للملك، وإن كانت في سياقاتها تعتبر تطورا وانتقالا من الحكم المطلق إلى الحكم المقيد بالدستور شكليا، ولكنها في الحالة التونسية تعبر عن انتقال فوقي من مقدمات نظام ديموقراطي إلى نظام رئاسي مطلق يحاول أن يكتسب مشروعيته من الدستور، الذي سيعرض على الشعب التونسي ليقول فيه كلمة يوم 25 تموز/يوليو القادم.
ومن العبارات التي تستحق المناقشة في المشروع الجديد، الفقرات المتعلقة بمكانة الدين في الدستور.
مكانة الدين في مشروع الدستور الجديد
قبل الإفراج عن النسخة النهائية من مشروع الدستور الجديد، أعادت التصريحات الغريبة للرئيس التونسي الجدل حول علاقة الدين بالدولة داخل المتن الدستوري، وزاد الأمر غرابة تصريحات أعضاء ما سمي بـ"الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور "الجمهورية الجديدة"، ففي الوقت الذي ذهب فيه الرئيس قيس سعيد إلى القول بأن "الدستور الجديد سينص على أمة دينها الإسلام وليس دولة دينها الإسلام"، معتبرا أن "الدولة ذات معنوية كالشركة أو المؤسسة، والشركة لن تمر على الصراط"، معتبرا أن "الحديث عن دولة دينها الإسلام لا يليق بدولة تسعى لتحقيق مقاصد الإسلام"، رأى أحد أعضاء الهيئة المذكورة أن مسودة الدستور الجديد لن تتضمن ذكرا للإسلام دينا للدولة، بهدف التصدي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية"!!!
وهي تصريحات تنم عن خلفيات سياسية ذات حمولة إيديولوجية عدائية تتجاهل التراكم التاريخي المتعلق بعبارة "الإسلام دين الدولة"، وتتعارض مع المنهجيات المتعارف عليها في كتابة الدساتير، وتصطدم مع المقاربة الحوارية والتشاركية التي تستند عليها صياغة الدساتير الحديثة، وهو ما يجعل طريقة وضع ما سمي بدستور الجمهورية التونسية الجديدة طريقة فريدة وغير مسبوقة في تجارب صياغة الدساتير !! وإذا أضفنا إلى ذلك المدة القياسية التي كتب بها الدستور (أقل من ثلاثة أشهر) من طرف لجنة مصغرة معينة من طرف الرئيس وفاقدة لأي مشروعية شعبية، وذات طبيعة استشارية في النهاية، فإننا نكون أمام ممارسة عبثية في كتابة القانون الأساسي للدولة الذي من المفروض أن يتمتع بقاعدة السمو على جميع القوانين.
ينص الفصل الأول من دستور تونس 2014 أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، وهو النص نفسه الذي تم المحافظة عليه منذ دستور عام 1959.
هذا النص تعهد الصادق بلعيد رئيس الهيئة المعينة من قبل الرئيس بإلغائه، وذلك حينما صرح بأن "الدستور الجديد لن يتضمن ذكرا للإسلام "، وهو ما أكده عضو آخر في الهيئة نفسها حين قال بـ" أنه سيقع تغيير الفصل الأول من الدستور الذي ينص على كون الإسلام "دينا للدولة"، معتبرا أن "الدولة كيان معنوي مجرد وليس لها دين، ومشددا على أن "العلاقة بين الخالق والمخلوق عمودية، وليس هناك أي ضرورة للتنصيص على ذلك في الدستور".
وأكد أنه "لم يقع الحديث عن الإسلام في أي فصل من فصول الدستور الجديد"، قائلا: "لا تنصيص على الإسلام كدين للدولة"، مكتفيا بالقول بأن ديباجة الدستور ستتضمن عبارة "تونس تنتمي للأسرة العربية الإسلامية".
هذه التصريحات تعكس درجة الحساسية الموجودة لدى جزء من النخب التونسية اتجاه التنصيص الدستوري على مكانة معينة للدين الإسلامي، التي يتم التعبير عنها بلغة ذات طبيعة سياسية بعيدة عن لغة القانون الدستوري المقارن، التي تعكس حضورا معتبرا للدين في أغلب الدساتير الديموقراطية، باستثناء التجربة الفرنسية المحكومة بسياق تاريخي وسياسي وثقافي خاص.
وحده قيس سعيد الذي يرمز للدولة له القدرة والأهلية والاستطاعة على تحقيق هذه المقاصد حسب فهمه وتأويله، وحسب ما ستفرضه الظروف السياسية المقبلة.
لكن ماذا يعني الفصل الخامس من مشروع دستور قيس سعيد الذي ينص على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية".
هذا النص يقرر حقيقة تاريخية وثقافية وجغرافية، هي أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية"؛ لأنها بكل بساطة ليست جزءا من الأمة المسيحية أو اليهودية.
أما إقحام هدف تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية، فيمكن النظر إليه بشكل إيجابي لو كنا في مناخ ديمقراطي، لكن حينما يتم حصر تطبيق هذا المعنى بعبارة: "وعلى الدولة وحدها"، فهذا يعني شيئا واحدا: هو أن "الدولة التي هي أنا قيس سعيد" هي وحدها المخولة بفهم مقاصد الإسلام الحنيف، ولها وحدها سلطة تأويلها، ولا يحق لأحد أن يتبنى هذه المهمة في المجال العام، مما يعني عدم دستورية أي فعل مدني أو مجتمعي يحاول الانطلاق من المرجعية الإسلامية في عمله السياسي، فموضوع تحقيق المقاصد في نظره هو شأن يهم الدولة، ولا شأن للأحزاب السياسية به، ولادخل للمجتمع فيه.
وحده قيس سعيد الذي يرمز للدولة له القدرة والأهلية والاستطاعة على تحقيق هذه المقاصد حسب فهمه وتأويله، وحسب ما ستفرضه الظروف السياسية المقبلة.
وزير مغربي سابق: القول بـ"العنف القرآني" إفكٌ وجهالة
الصلابي للرئيس قيس سعيد: الدولة دينها الإسلام وهذا الدليل
جماعات الإسلام السياسي.. هل تتبع بالفعل إسلاما متخيلا؟