شهدت السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية عدة محطات من
التغيير، تزامناً مع وتأثراً بتطورات محلية وإقليمية في المقام الأول، لكن السنوات
القليلة الأخيرة أظهرت وكأنها باتت سياسة يومية أقرب لردات الفعل منها لسياسة
ثابتة مبنية على رؤية واضحة. صحيح أن لحالة السيولة في المنطقة -ومؤخراً العالم- دوراً
بارزاً في ذلك، لكنها ليست السبب الوحيد ولا الإطار التفسيري المنطقي لذلك.
في 2016، ولأسباب كثيرة وتحديات وأزمات في الداخل والخارج، رفعت أنقرة شعار
"تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم"، لكنه بقي شعاراً لم يتحقق، لا
سيما وأن الأطراف الإقليمية الأخرى لم تتفاعل معه كما كانت تتوقع تركيا وتريد.
بل إن السنوات التي تلت ذلك حملت استقطاباً أعمق بين تركيا وعدد من الأطراف
الإقليمية، وخصوصاً بعض دول الخليج العربي، على خلفية أزمة حصار قطر وقضية قتل
الإعلامي جمال خاشقجي فضلاً عن أزمة شرق المتوسط والتطورات في ليبيا والعراق.. الخ.
ومنذ بداية 2020، عاد الحديث عن تطبيع العلاقات وتهدئة الخلافات، لكن هذه
المرة ليس تركياً فقط وإنما من قبل مختلف الأطراف، ولأسباب كثيرة جداً أهمها اثنان:
الأول رغبة الولايات المتحدة في تخفيض حدة الخلاف بين حلفائها في المنطقة وزيادة
الاعتماد عليهم في حل الملفات الإقليمية، والثاني الأزمة الاقتصادية التي أثرت في
الجميع على هامش الأزمة الاقتصادية العالمية السابقة، ثم تداعيات جائحة كورونا،
وأضيف لها مؤخراً الحرب الروسية- الأوكرانية.
وعليه، فقد خطت أنقرة خطوات واضحة بل ربما قفزات تجاه عدة دول وَجِهات في
المنطقة كانت تصنف خلال العقد الماضي كخصوم ومنافسين إقليميين لها، في مقدمتهم
السعودية والإمارات ومصر والكيان الصهيوني، فضلاً عن أرمينيا واليونان.
بيد أن ما ميّز هذا المسار من التقارب مع الأطراف سالفة الذكر أنها أظهرت
تركيا وكأنها الأكثر حاجة للتهدئة والحوار والتقارب والأكثر رغبة بهما، ما انعكس،
في الشكل والأسلوب والخطاب على أقل تقدير، استعجالاً في ظل ظروف غير مشجعة أصلاً،
كما حصل مع الخطوات تجاه الكيان الصهيوني الذي كان واضحاً أنه يواجه مشكلة عدم
استقرار حكومي وسيذهب على الأغلب لانتخابات جديدة (قد تغير الائتلاف الحاكم
برمته)، وهو ما كان.
ومن جهة ثانية، وتبعاً لذلك، فقد بدا وكأن أنقرة هي التي دفعت حصراً
استحقاقات هذا التقارب أو الجزء الأكبر من "ثمنه"، كما حصل في حالة مصر
مع الإعلام المعارض العامل على الأراضي التركية، وكذلك في حالة السعودية مع ملف
خاشقجي. نقول هذا ما بدا أو الانطباع الذي تولد لدى الكثيرين، وربما حرصت على
إبرازه الأطراف الأخرى، رغم أن مسار التهدئة والتقارب يمضي برغبة وإرادة وسعي من مختلف
الأطراف، ولأسباب مشتركة ومتشابهة كما سلف ذكره.
في كشف الحساب، ورغم أن الوقت ما زال باكراً لتقييم نتائج المسار الذي ما
زال قائماً، يمكن القول إن تركيا كسبت تخفيف الضغوط الخارجية عليها، وبدت لهجة
الأطراف الإقليمية تجاهها أقل حدة من ذي قبل، لا سيما أن المسار أتى في ظل الأزمة
الروسية- الأوكرانية التي تحولت لحرب رفعت من قيمة الأدوار التي تلعبها أنقرة،
وزادت من أهميتها بالنسبة للغرب عموماً والولايات المتحدة، خصوصاً فضلاً عن الحاجة
الملحة لها في المنظومات الأمنية المستجدة إقليمياً ودولياً بعد الحرب.
أما على الصعيد الاقتصادي، الأهم من وجهة نظر تركيا وفق السردية المصدّرة محلياً،
فيبدو أن العائد ما زال أقل بكثير من التوقعات. صحيح أن الأمر شهد بعض التطورات
الإيجابية، مثل رفع السعودية حظر السفر إلى تركيا إضافة لوعود الاستثمارات
الإماراتية، إلا أنه يبدو عائداً أقل بكثير من المنتظر أو الذي نُظِّرَ له.
يظهر ذلك أن التنظير التركي لإيجابيات المسار وعائداته الاقتصادية لم يكن
دقيقاً، أو أن الدافع الرئيس له سياسي وليس اقتصادياً بالأصل، أو أن الأمور لم تسر
كما كانت أنقرة ترغب وتخطط، أو كلَّ ما سبق.
في الأصل، لم تكن التوقعات بزيادة سريعة في التبادل التجاري مع الأطراف
المذكورة منطقية، ولا الاتفاق مع الكيان الصهيوني بخصوص الغاز متوقعة. حتى زيادة
الاستثمارات، وهي الأداة الأفضل بالنسبة لأنقرة إذ توافق احتياجات اقتصادها، لم
يكن متوقعاً أن تقدمها الدول الخليجية المذكورة سريعاً و/أو دون ثمن سياسي.
فالمفهوم أن مسار التطبيع والتهدئة القائم بني على تجنب الملفات الخلافية مرحلياً
وليس حلها، فضلاً عن عدم تغيير الدول المعنية رؤاها واستراتيجياتها في المنطقة.
وعليه، فلم يكن منتظراً أن تذهب السعودية والإمارات مثلاً لضخ عملة صعبة في
الاقتصاد التركي؛ ستكون بالتأكيد عاملاً داعماً لأردوغان قبيل الانتخابات، حيث لم
ترشح حتى لحظة كتابة هذه السطور أي مؤشرات أو قرائن قوية على اختلاف نظرتها له
ولسياسته الخارجية أو عقد صفقة ما معه؛ يمكن أن تشمل دعمهما له من خلال
الاستثمارات.
في الخلاصة، وإن كان الوقت ما زال باكراً جداً للحكم على مسار التهدئة
القائم في المنطقة وتحديداً بين تركيا وعدد من الأطراف الإقليمية، إلا أن
التقييمات التي رافقته في بداياته بالغت في تقدير العائد منه لا سيما على الصعيد
الاقتصادي. نقول ذلك ونحن ندرك أن المسار برمته ليس مضمون الاستمرار على المدى
البعيد، إذ هو مرهون بعدة تطورات؛ منها الموقف الأمريكي والمحور الإقليمي المراد
تشكيله في مواجهة إيران، وغير ذلك، ما يدفع للحذر في التقييم والتقدير والاستشراف
في ظل حالة السيولة الإقليمية التي تدفع إلى سياسات خارجية أقرب لليومية مرة أخرى.
twitter.com/saidelhaj
فائض أمريكي بتجارتها مع العرب للعام السادس
إمام أوغلو.. عبء ثقيل على المعارضة التركية
القبول بـ"إسرائيل".. وصفة الموت العربية!