ملفات وتقارير

تونس.. الجيش "محايد سياسيا" والعلاقات الخارجية في الميزان

هل يتسبب الاستفتاء على الدستور في مزيد تعقيد علاقات تونس الخارجية بواشنطن وبقية كبار شركائها؟ (فيسبوك)

دخلت ورقتا المؤسسة العسكرية والعلاقات الخارجية على الخط، بعد تصعيد الانتقادات الداخلية والدولية للظروف التي جرى فيها "الاستفتاء المثير للجدل حول مشروع دستور قيس سعيد". وفي سابقة سياسية دعت الخارجية التونسية رئيسة البعثة الأمريكية بتونس للاحتجاج على تصريحات وزير الخارجية بلينكن والسفير الأمريكي المعين جودي هود، والتي انتقدت نتائج الاستفتاء والمسار السياسي في تونس منذ عام، وتحدثت علنا عن "مخطط أمريكي" يشمل تحييد الجيش التونسي سياسيا واحترام مدنية الدولة ودفع البلاد نحو التطبيع الاقتصادي والسياسي مع تل أبيب ونحو انتخابات برلمانية "ديمقراطية حقيقية". 

فهل يتسبب الاستفتاء في مزيد من تعقيد علاقات تونس الخارجية بواشنطن وبقية كبار شركائها الاقتصاديين في أوروبا ومجموعة السبعة الكبار؟

اعتبر الخبير الدستوري ورئيس معهد تونس للسياسات أحمد ادريس في تصريح لـ "عربي21"، أن "مشروع الدستور الجديد قفزة نحو المجهول" وأنه محاولة للانتقال بالبلاد إلى "جمهورية ثالثة" تقطع مع "النظام البرلماني المعدل" وتنتقل إلى "نظام رئاسي مركزي" تكون فيه أغلب السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والدينية بين أيدي رئيس الدولة على غرار ما كان عليه الأمر في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة (1957- 1987) وزين العابدين بن علي (1987- 2011)" .

حياد الجيش

بعد أشهر من دعوات صدرت في واشنطن وأوروبا لتحييد الجيش و"فتح تحقيق حول دوره في قرارات 25 يوليو 2021" التي أدت إلى حل البرلمان وإسقاط الحكومة، نشرت واشنطن تصريحات للسفير الأمريكي  الجديد بتونس جودي هود وأعضاء في الكونغرس والاتحاد الأوروبي تناولت علنا ملف "حياد الجيش التونسي سياسيا"، ومستقبل تونس في ظل احتداد الخلافات بين روسيا والصين والجزائر من جهة ودول الحلف الأطلسي وحلفائها العرب من جهة أخرى حول مستقبل ليبيا وتونس والمنطقة.

وقد احتج الرئيس قيس سعيد ووزير خارجيته عثمان الجارندي وسياسيون ونقابيون تونسيون بقوة على هذه التصريحات واعتبروا أنها تتناقض مع احترام "السيادة الوطنية" للبلاد.

في الأثناء أكدت مصادر عديدة أن الخلافات داخل الطبقة السياسية بعد الاستفتاء ستعمق أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وستتسبب في مضاعفة الضغوطات الخارجية على الحكومة للتأثير في سياساتها الداخلية والخارجية ودفعها نحو "التطبيع الاقتصادي والسياسي الشامل" مع إسرائيل والغرب والابتعاد عن روسيا والصين وإيران وحلفائها المتهمين بـ"الإرهاب"؟

تصعيد

لكن رغم مواقف الرئيس التونسي القوية ضد "التدخل الأمريكي والخارجي" في شؤون تونس على هامش الاستفتاء، فقد أعلنت قيادات الأحزاب التونسية وجبهات المعارضة الثلاث أنها تعتزم تصعيد تحركاتها واحتجاجاتها ضد "معركة العبور" التي أعلن سعيد وأنصاره أنهم يخوضونها بهدف الانتقال بالبلاد من ما تصفه "النظام السياسي التعددي" "الذي اعتمدته منذ الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي في 2011 ثم في دستور يناير 2014 إلى "حكم فردي ونظام رئاسوي مركزي وشعبوي". 

في المقابل كشف الاستفتاء، الذي شارك فيه حسب التقديرات الرسمية حوالي 30 بالمائة من الناخبين، أن الرئيس التونسي نجح بعد عام من الإطاحة بالبرلمان والحكومة، في أن يشكل "حزاما سياسيا" وأن يستقطب عدة شخصيات وأحزاب ونقابيين شييوعيين وبعثيين وناصريين، رغم معارضة كبرى الأحزاب البرلمانية لهم ببنها النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة من جهة والحزب الدستور والحر بزعامة عبير موسي من جهة ثانية.

ورغم إعلان أمين عام اتحاد نقابات العمال نور الدين الطبوبي وأغلب المقربين منه معارضتهم "لدستور قيس سعيد"، فإن عددا من كوادر اتحاد الشغل ونقابات رجال الأعمال والفلاحين انحازوا إلى قيس سعيد ومشروعه السياسي وخاصة إلى مواقفه المعارضة لكل أشكال التدخل الأمريكي والأوروبي ودول الحلف الأطلسي في تونس "وفي سياستها الداخلية والخارجية".

ومن المتوقع أن ينجح أنصار قيس سعيد عبر تحالفهم مع الأحزاب "القومية العربية واليسارية المساندة لدمشق وروسيا وإيران" في دعم "الحزام السياسي للرئيس" وتعزيز تأثير القيادات النقابية والسياسية العروبية والماركسية في مؤسسات صنع القرار وعلى رأس عدد من مؤسسات الدولة.

وقد تتصدر هذه "الجبهة الجديدة" المعارك السياسية القادمة مع قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل وحزبي النهضة والدستوري الحر من جهة والأحزاب اليسارية بزعامة حمة الهمامي وخليل زاوية وغازي الشاوشي وعصام الشابي ورياض بن فضل من جهة ثانية..

وفي كل الحالات فقد تسبب "الاستفتاء" في خلط الأوراق وانقسام المعارضين السابقين لقيس سعيد بحسب ولاءاتهم الداخلية والخارجية، والمواجهات المتوقعة بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني من جهة وبين الحكومة والنقابات من جهه ثانية بعد موسم الإجازات الصيفية. 

ضغوطات

وفي الوقت الذي تنوعت فيه ضغوطات العواصم الأوروبية والأمريكية على الحكومة التونسية بعد "الاستفتاء" فقد طالب وزير الخارجية التونسي عثمان الجارندي، العواصم الدولية مجددا بـ "الدعم الدولي للمسار السياسي الديمقراطي التعددي التونسي ولحركة الإصلاح التي يتزعهما الرئيس قيس سعيد منذ الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها في 25 يوليو 2012".

لكن السؤال الكبير داخل صناع القرار في تونس أصبح: كيف ستتفاعل واشنطن وقيادات الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع مع انتقادات سعيد ووزارة خارجيته لتصريحات وزراء خارجيتها وأعضاء برلماناتها ردا على "الاستفتاء" وعلى "الإجراءات الاستثنائية" التي بدأت قبل عام؟

وهل ستقبل "دعوة رئيسة البعثة الأمريكية" إلى وزارة الخارجية للاحتجاج رسميا على موقف حكومتها؟ وهل ستوافق على تعيين السفير جودي هود في تونس أم ستعترض عليه من منطلق "احترام السيادة الوطنية"؟  

في كل الحالات يتأكد أن "الاستفتاء" تسبب في ترفيع نسق "الضغوطات الخارجية" على قصر قرطاج بينها "تعليق المساعدات المالية والقروض الدولية"، بحجة دفعه نحو "احترام مكاسب الديمقراطية والتعددية التي تحققت في تونس بعد ثورة الشباب في 2011 والدستور التقدمي الذي أنجز في يناير 2014 من قبل مجلس وطني تأسيسي بعد انتخابات شارك فيها أكثر من 4 ملايين مواطن تونسي ".

وتضاعفت مؤشرات التداخل بين الأزمة التونسية الداخلية والضغوطات الخارجية التي تمارس على السلطات من قبل عدد من أبرز شركائها الإقليميين والدوليين الذين لديهم مصالح متناقضة في ليبيا وكامل شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، بينها واشنطن والجزائر والقاهرة وباريس وبرلين وبروكسل ولندن وروما وموسكو وأنقرة والرباط..

لكن قيس سعيد أعلن مجددا أنه ماض في معارضة "التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للبلاد". كما أنه رفض الاتهامات الموجهة له ولحكومته بدفع البلاد نحو "جمهورية جديدة دكتاتورية"، أو "جمهورية ثالثة استبدادية".

وأكد سعيد أنه لا يفكر في حل الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، واعتبر نفسه صاحب "مشروع سياسي ثوري عالمي للتغيير" يسعى لتدارك النقائص في مختلف الدساتير وأنظمة الحكم شرقا وغربا "بعد أن فشلت النظم السياسية التقليدية في أغلب دول العالم وأصبحت تمر بأزمات" بما فيها الأنظمة البرلمانية وشبه البرلمانية في أوروبا.

دعم أمريكي أوروبي للمعارضة

لكن ردود الفعل الفرنسية والأوروبية والأمريكية على "دستور سعيد" وعلى الظروف التي نظم فيها الاستفتاء ونسب المشاركة فيه كشفت تمادي واشنطن والعواصم الغربية في دعمها للمعارضة التونسية بكل مكوناتها.

وكشفت تلك الردود دعم العواصم الغربية مجددا للأحزاب والمعارضة والمنظمات الحقوقية التونسية في ما تصفه بـ "المعركة من أجل احترام حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والفصل بين السلطات".

في نفس الوقت أكد أحمد نجيب الشابي زعيم "جبهة الخلاص الوطني" التي تضم 10 أحزاب ومنظمات سياسية بينها أحزاب النهضة وقلب تونس وأمل وعمل في تصريح لـ "عربي21"، أن أغلب رؤساء البعثات الدبلوماسية الأوروبية والأمريكية بتونس يتابعون زيارة مقرات الجبهة وأكدوا لقيادتها مرارا أن بلدانهم تضغط "من أجل عودة تونس إلى نظام سياسي ديمقراطي يحترم الحريات العامة والفردية واستقلالية السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية تكريسا لقاعدة الفصل بين السلطات"..

ونفى الشابي ما روجه زعيم حزب الشعب القومي العروبي زهير المغزاوي، ضد معارضي قيس سعيد وقادة جبهة الخلاص الوطني المعارضة عن "تحالفها مع اللوبي الصهيوني في أمريكا والعواصم الأطلسية ضد تونس"..

وطالب الشابي العواصم العالمية بأن تقدم لتونس "في أقرب وقت" الدعم المالي الذي تحتاجه الدولة حتى تنجح في معالجة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، والتي توقع أن تستفحل بعد استفتاء "25 يوليو" حول الدستور الجديد المثير للجدل "الذي قال عنه إنه "زاد المشهد السياسي تعقيدا وعمق الخلافات داخل الطبقة السياسية بسبب عدم فتح حوار وطني شامل دعت إليه قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل والمعارضة مرارا بعد انتخابات 2019".

لكن سعيد وقادة الأحزاب القومية واليسارية الموالية له ولسياسته الداخلية والخارجية مثل زهير المغزاوي وزهير حمدي وعبيد البريكي يطالبون الرئيس برفض الحوار مع من يصفونهم بـ "الإخوان وحلفائهم.. رموز الفساد في العشرية الماضية" في إشارة إلى حكومات النداء وحلفائه أي حكومات الحبيب الصيد ويوسف الشاهد وهشام المشيشي.

في المقابل اتهم زعماء يساريون من "الجبهة الديمقراطية الاجتماعية" في مؤتمر صحفي بعد الاستفتاء الأحزاب الموالية لقصر قرطاج اليوم بأنها "كانت دوما غير ديمقراطية ولديها سوابق في دعم الاستبداد ومنظومة الفساد في عهد بن علي" على غرار ما ورد على لسان حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي وخليل الزاوية زعيم حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.

الورقة الدولية وحياد الجيش

وغير بعيد عن مقولات قيس سعيد عن "معركة العبور" و"اللاءات الثلاثة" و"التطبيع مع إسرائيل خيانة" و "العداء مع إسرائيل عمره أكثر من قرن" يبدو أن الهدف من الضغوطات الخارجية الحالية على السلطات التونسية ليس فقط" تشجيعها على العودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني"، بل هي امتداد لتلك التي بدأت منذ انتخابات 2019 بعد وصول "قومي عربي متأثر بالمفكر العروبي المصري عصمت سيف الدولة والزعيم جمال عبد الناصر" إلى قصر قرطاج، حسب تدوينة نشرها وقتها المحامي والوزير السابق محمود المهيري، الذي كان زميلا لسعيد عندما كان طالبا في الجامعة .

وتدعمت هذه الصورة عن سعيد بعد تحالفه مع الشخصيات والأحزاب القومية واليسارية القريبة من التيار القومي العربي ومن سوريا وإيران ولبنان مثل قيادات حزبي الشعب والتيار الشعبي بزعامة زهير المغزاوي وزهير الحمدي .

وكشفت تصريحات أغلب المسؤولين الغربيين بعد "الإستفتاء الأخير" وكبار موفدي الرئيس الأمريكي والاتحاد الأوروبي والعواصم الأوروبية إلى قيس سعيد وحكومته طوال العام الماضي تخوفات من تغير السياسة الخارجية التونسية في "الجمهورية الجديدة" أو "الجمهورية الثالثة"، تحت تأثير الجزائر القريبة من موسكو والصين وإيران ودول أخرى ..

وقد برزت بعض هذه التصريحات بعد عدة خطوات تقارب قام بها سعيد في اتجاه الجزائر، التي أعلن مسؤولوها مرارا أن بلادهم تعارض "تضخم الدور المصري والإماراتي والأمريكي والإسرائيلي "على حدود بلادهم" في ليبيا أو في بلدان منطقة شمال افريقيا والساحل والصحراء التي تشهد حروبا وصراعات نفوذ اقتصادي وعسكري بين محاور دولية واقليمية بعضها يستهدف الجزائر ومصالحه وأمنه .

وقد رد مسؤولون غربيون وعرب على تصريحات الجزائر وحذرها بعضهم بالوقوف الى جانب "محور الشر بزعامة روسيا والصين وإيران ".

وتأتي هذه المتغيرات في مرحلة تقوم فيها الجزائروتونس وبعض العواصم العربية بجهود لضمان عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في القمة العربية المقرر تنظيمها موفى العام الماضي في العاصمة الجزائرية .

وقد حاول الرئيس التونسي توجيه تطمينات للعواصم المتخوفة من سياسته الخارجية بعد استقباله أو محادثاته مع مسؤولين سوريين وصينين وروس وإيرانيين وجزائريين .

كما ورد لأول مرة في وثيقة "مشروع الدستور" ما يوحي الاعتراف بإسرائيل من خلال تنصيصها على أن "قرارات الشرعية الدولية" الأممية يجب أن تكون مرجع تسوية الصراع العربي الإسرائيلي والفسلطيني الإسرائيلي.. بما يعني اعترافا بكل مقررات الأمم المتحدة التي تعترف بدولة إسرائيل .

لكن العواصم الغربية تابعت ضغطها على السلطات التونسية من خلال تشكيكها الجزئي في مساره السياسي وفي توجهاته مثلما كشفته تصريحات السفير الأمريكي الجديد في تونس جودي هود واللورد أحمد سعيد وزيرالمكلف بشمال إفريقيا وجنوب ووسط آسيا ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل .

وقد كشفت تلك التصريحات تعهدا بإقناع تونس بأن تنخرط في "شراكة اقتصادية وسياسية" مع إسرائيل وشركائها في المنطقة مقابل دعمها اقتصاديا لمواجهة "مضاعفات الغزو الروسي لأوكرانيا على الغذاء والأوضاع الاقتصادية في تونس وفي المنطقة والعالم ".

فهل تنجح السياسة الخارجية التونسية "للجمهورية الجديدة" التي بشر قيس سعيد بـ "العبور" نحوها في تخفيف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد أم تزيدها تعقيدا ومخاطر خاصة بعد أن زادت الأزمة في ليبيا تعقيدا بسبب الحروب بالوكالة التي تشهدها المنطقة؟

وكيف سيكون موقف قيادات المؤسسة العسكرية من دعوات واشنطن الجديدة إلى "حياد الجيش التونسي سياسيا"؟

 

إقرأ أيضا: "الخلاص" بتونس تطالب النيابة بكشف حقيقة تزوير الاستفتاء