مهما كان توصيفنا لحقيقة "تصحيح المسار" وتقاطعاته الخفية مع الدولة
العميقة ومحور الثورات المضادة، ومهما كان موقفنا من المشروع السياسي للرئيس قيس
سعيد وعلاقته بالانتظارات الحقيقية للشعب
التونسي من جهة أولى؛ وبإملاءات الجهات
المانحة/ الناهبة من جهة ثانية، فإن ختم
الدستور وإصداره يُمثل "لحظة
تاريخية" سيكون لها ما بعدها في تونس وفي الإقليم كله.
وقد لا تتطابق رمزية الحدث مع ما يعطيه الرئيس لمعنى تلك اللحظة ومآلاتها
"المتخيلة"، ولكنها تعكس نهاية "الربيع العربي 1"، أو على الأقل بلوغه مرحلة
الموت السريري في بلد "الاستثناء التونسي". فختمُ الدستور والإذن
بإصداره من لدن الرئيس يجعلان منه "السلطة التأسيسية" الوحيدة للجمهورية
الجديدة ويُؤكدان انتصاره -إلى حدود كتابة هذا المقال- على معارضي خارطة الطريق
التي وضعها للخروج من حالة الاستثناء، بعد أن حوّلها إلى مرحلة مؤقتة تمهد
لجمهوريته الجديدة.
في الكلمة التي ألقاها بعد
ختم الدستور الجديد والإذن بإصداره، بدا واضحا أن
قراءة الرئيس التونسي للأحداث وللأرقام وللمواقف ما زالت قراءة مختلفة عن قراءات
أغلب القوى الوطنية والدولية. فالاستشارة الوطنية التي لم يشارك فيها إلا 5 في المائة من التونسيين تصبح
"ملحمة وطنية" نجحت في التعبير عن إرادة التونسيين، رغم تعرض المنصة إلى 120 ألف هجوم إلكتروني من الداخل
والخارج. أما الاستفتاء الذي لم يشارك فيه إلا 30 في المائة من مجموع المسجلين في
القوائم الانتخابية فإنه يعكس -حسب الرئيس- إرادة "الشعب" في التخلص من
الدستور القديم والخروج من "الظلام" الذي ساد لأكثر من عقد من الزمن،
وهي إرادة نجحت في فرض نفسها رغم الأوضاع المعقدة ورغم أنف "جيوب الردة"
المنتشرة في كل مكان.
فختمُ الدستور والإذن بإصداره من لدن الرئيس يجعلان منه "السلطة التأسيسية" الوحيدة للجمهورية الجديدة ويُؤكدان انتصاره -إلى حدود كتابة هذا المقال- على معارضي خارطة الطريق التي وضعها للخروج من حالة الاستثناء، بعد أن حوّلها إلى مرحلة مؤقتة تمهد لجمهوريته الجديدة
في "تقريضه" لدستوره الجديد وشرعنته أمام الرأي العام المحلي
والدولي، ينطلق الرئيس
قيس سعيد من مسلّمة -لا تحتاج حسب رأيه إلى البرهنة- ألا
وهي أن هذا الدستور يُمثل لحظة التطابق التي طال انتظارها بين "الشرعية
الدستورية والمشروعية الشعبية". إننا أمام صياغة مخاتلة لا تجمع بين الشرعية
الدستورية ومشروعية "الإنجاز" أو الأداء، وهو أمر منتظرٌ بحكم عجز
الرئيس خلال "حالة الاستثناء" عن تحقيق أي شيء من وعوده في مكافحة
الفساد وتحسين الوضع الاقتصادي والخروج من نفق الصراعات الهوياتية، تلك الصراعات
التي كان يراها -قبل وصوله إلى قصر قرطاج- سببا أساسيا في انحراف النخب جميعها،
بحكّامها ومعارضيها، عن القضايا الحقيقية للشعب.
إذا كان الإسلام يجبّ ما قبله، فإن "تصحيح المسار" أيضا يجبّ ما
قبله من شرعيات ومشروعيات وسرديات تاريخية زائفة. فالتاريخ "الثوري"
الحقيقي الذي بدأ يوم 17 كانون الأول/
ديسمبر 2010 لم يجد الإرادة السياسية التي
تعبُر عنه وتُمأسسه إلا يوم 25 تموز/ يوليو من
السنة الماضية، أما "المرحلة التأسيسية" ومسار الانتقال الديمقراطي فقد
كانا تزييفا لإرادة "الشعب" وانتظاراته المشروعة.
ونحن لم نُشبه تصحيح المسار بالإسلام إلا لأننا قد وجدنا في البنية العميقة
للجملة السياسية للرئيس -بل في فصول الدستور ذاته والصلاحيات التي يعطيها للرئيس-
نفَسا دينيا لا تستطيع كل المفردات الحديثة إخفاءه. فـ"العشرية السوداء"
كانت ظلاما احتاج لنور يذهب به (تصحيح المسار)، والحقيقة واحدة ولا تقبل التعدد (وهي
مع الرئيس تدور حيث دار)، والناس صنفان (صادق أو مؤمن بتصحيح المسار، وكافر بمشروع
الرئيس أو معارض له) ويضاف إليهما صنف ثالث هو أقرب إلى المنافقين حسب التوصيف
الشرعي (أولئك الذين ناصروا إجراءات الرئيس ثم عارضوها).
لفهم البنية الدينية ما قبل الحديثة للجملة السياسية للرئيس -بل لمشروعه
السياسي بأكمله- فإننا لن نحتاج إلى قراءة الدستور والبحث في الصلاحيات التي
أسندها الرئيس لنفسه فيه (هيمنة على كل المؤسسات وحصانة مطلقة من العزل أو سحب
الثقة أو المساءلة)، ويمكننا أن نكتفيَ بفكرة واحدة شرعنت تحوّل الرئيس إلى سلطة
تأسيسية مطلقة.
فكرة إنكار الانقسام الاجتماعي وتعدد المصالح المادية والرمزية، بل تضاربها. وتكمن خطورة هذا الوعي السياسي في إنكار شرعية تعدد الأجسام الوسيطة بين "الشعب" والدولة، الأمر الذي يُمهد لاحتكار الرئيس تمثيل "الإرادة الشعبية"
إنها فكرة إنكار
الانقسام الاجتماعي وتعدد المصالح المادية والرمزية، بل تضاربها.
وتكمن خطورة هذا الوعي السياسي في إنكار شرعية تعدد الأجسام الوسيطة بين
"الشعب" والدولة، الأمر الذي يُمهد لاحتكار الرئيس تمثيل "الإرادة
الشعبية". ولكنّ خطورة هذه الفكرة تكمن أيضا في أنها تتأسس على فهم
"ديني" ما قبل حداثي لمفهوم الحقيقة الاجتماعية. فالدرس الهابرماسي
يعلّمنا أن الحقيقة الجماعية لا تسبق الحوار بل تعقبه، وتنبئنا بأن الحقيقة مؤقتة
ومحايثة وليست مطلقة أو متعالية. أما الرئيس فإنه يؤسس مشروعه كله على أحادية
الحقيقة السلطوية وإطلاقيتها وتقابلها، أو تضاربها مع كل الحقائق التي قد تصدر من
مواقع التلفظ الأخرى.
مثل كل الخطابات الزعاماتية ذات النفس الشعبوي، حرص الرئيس التونسي دائما على
محو إرادته الفردية، بل حرص على محو كل الهويات الفردية والجماعية التي تقف خلف
مشروعه السياسي وتسنده في الداخل والخارج، ولذلك جاءت كلمته لتنسب الفضل كله لهوية
هلامية يسميها "الشعب".
فالرئيس لا ينسب فضلا لنفسه ولا لتنسيقياته ولا للأحزاب والمنظمات المساندة له،
ولا لأجهزة الدولة ولا لحلفائه الإقليميين، بل ينسب الفضل كله للشعب
"العظيم"، أي "شعبه". وإذا ما عدنا إلى الأرقام المعلنة في
الاستشارة الوطنية وفي الاستفتاء، فإن هذا "الشعب" لا يتجاوز ثلث مجموع
التونسيين.
ونحن لن نسأل الرئيس عن صفة بقية المواطنين الذين رفضوا دستوره وخارطة طريقه (إذا
لم يكن هؤلاء من "الشعب العظيم" الذي سانده، فمن هم؟)، ولكننا نتساءل عن
الآثار السياسية والاجتماعية (بل القضائية والأمنية) التي ستترتب عن إخراج هؤلاء
من "الشعب". فهنا، قد لا تكفي تلك التطمينات التي قدمها الرئيس فيما يخص
المحافظة على الحريات، خاصة إذا ما استحضرنا مقدار الانقسام الاجتماعي والضغائن
القاتلة التي سينتجها هذا الخطاب، سواء في العلاقات البينية بين المواطنين أو
بينهم وبين أجهزة الدولة.
خطورة الدستور الجديد لا تنحصر في أحادية السلطة التأسيسية التي تقف خلفه، بل تكمن أساسا في دوره المرتقب في إعادة هندسة المشهد التونسي بصورة جذرية. فالدستور سيجعل الرئيس هو المتحكم الأوحد في كل مؤسسات الدولة
إن خطورة الدستور الجديد لا تنحصر في أحادية السلطة التأسيسية التي تقف خلفه،
بل تكمن أساسا في دوره المرتقب في إعادة هندسة المشهد التونسي بصورة جذرية.
فالدستور سيجعل الرئيس هو المتحكم الأوحد في كل مؤسسات الدولة، بدءا من المحكمة
الدستورية، مرورا بالسلطة التشريعية وانتهاء بالحكومة والأجهزة الحاملة للسلاح.
ولا شك عندنا في أن الرئيس سيشرعن ذلك كله بالتعبير عن الإرادة الشعبية،
وسيواصل شيطنة كل خصومه باعتبارهم أعداء لتلك الإرادة التي يحتكر الرئيس تمثيلها/
تجسيدها بحكم الدستور ذاته. وقد لا نحتاج إلى قدرات استشرافية خارقة لنتوقع خروج
الخلاف بين الرئيس وخصومه من دائرة السياسة إلى دوائر المقاربات الأمنية
والقضائية؛ التي قد تزيد الوضع التونسي تأزما. وهي فرضية راجحة بحكم إصرار الرئيس
على منطق البديل ورفضه لأي حوار أو إدارة تشاركية لشؤون الدولة، حتى مع مناصريه
داخل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، بل رفضه لكل الدعوات الدولية للحوار الشامل
بين مختلف الفرقاء.
ونحن نذهب إلى أن مستقبل الرئيس السياسي لن تحدده موازين القوى المحلية ولا
قوة المعارضة المنقسمة على ذاتها، بقدر ما ستحدده "مشروعية الإنجاز"،
سواء من جهة علاقتها بانتظارات التونسيين اقتصاديا واجتماعيا، أو من جهة علاقتها بانتظارات
القوى الدولية وحزمة إملاءاتها الاقتصادية (الإصلاحات الهيكلية) والسياسية (مشروع
التطبيع مع صفقة القرن).
twitter.com/adel_arabi21