في نحو عام 1983، شرعت ذات ليلة في قراءة رواية "أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي، ولم أضع الكتاب جانبا إلا بعد أن أكملت القراءة، أي أنني قضيت الليل بطوله وشطرا من نهار اليوم التالي وأنا أقرأ الرواية مشدودا ومشدوها بوقائعها، وبعدها قرأت له رواية "العار"، ثم لم أعثر له على أثر أو خبر في أي مكتبة في أي دولة عربية، إلى أن كان عام 1988 والضجة التي صاحبت صدور روايته "آيات شيطانية"، بانفجار براكين غضب المسلمين وصدور فتوى من الملا الإيراني آية الله الخميني بإهدار دمه.
فور انتقالي إلى بريطانيا في عام 1994 اشتريت نسخة من "آيات شيطانية"، وشرعت في قراءتها، ولم أتوغل فيها كثيرا كي أدرك أن جوهرها هو الطعن في بعض آيات القران الكريم، وجاهدت لمواصلة القراءة، ولكن تقريريتها الفجة رغم لجوء رشدي لحيلة الواقعية السحرية، لـ "تخييل" وقائع مثل الطعن في شرف السيدة عائشة رضي الله عنها (حديث الإفك)، بل وإطلاقه كنية "المستبد" على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تلميحه الأقوى من التصريح بأن هناك "آيات قرآنية نسخت واستُبعدت واستُبدلت" ـ وتستحق من ثم وصفها بالشيطانية، كل ذلك جعلني عاجزا عن التماس أي جهد فني أو تكنيكي يجعل من ذلك النص "رواية"، ثم قرأت لنقاد أدبيين غير مسلمين ما يؤكد أن آيات شيطانية عمل ساقط فنيا ولا يرقى إلى رتبة رواية.
رشدي (وهو ينطق اسمه هذا بفتح الراء وتسكين الشين، أي أن اسمه هذا ليس من الرُّشد الذي هو نقيض الغيّ)، لم ينكر صراحة أن غايته من "آيات شيطانية" كانت الطعن في كتاب ورسول المسلمين، بل خرج إلى المنابر الإعلامية ليعلن أنه "ملحد متشدد"، وأنه تلميذ للإسلام، ولكنه "مسلم ساقط"، لأنه "لا يؤمن بالخوارق"، ويعتقد أن الأديان، كما الأسلحة الحديثة تشكل خطرا على الحريات، ثم وفي عام 2015، أعلن رشدي دعمه لصحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية التي نشرت رسوما كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، مبررا ذلك بأن الأديان تستوجب السخرية.
وجد بعض الغربيين في الخطر الذي هدد حياة رشدي ذخيرة يقصفون بها الإسلام، ويدمغون بها المسلمين على أنهم دمويون ورافضون لحرية الرأي والتعبير، مع ان التاريخ يقول لنا إنهم من كرس سياسة تصفية الكتاب والمفكرين الذين يخرجون على الحكام والكنائس،
ثم كان ما كان من أمر إصدار قائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني فتوى بهدر دم رشدي باعتباره "مرتدا عن الإسلام"، مقرونا بحكم بالموت على ناشري الرواية، مع رصد جائزة قدرها مليون دولار لمن يتولى قتل رشدي، وعلى الفور ارتفعت أسهم الآيات الشيطانية، التي حكم عليها معظم النقاد بالفشل، وصدرت لها ترجمات بعدد من اللغات وارتفعت مبيعاتها إلى أرقام فلكية، رغم أن الطبعة الأولى منها لم تبع سوى 75 ألف نسخة، وحظيَ رشدي بالنجومية التي ظل ينشدها، فقد صار محروسا على مدى 11 سنة متتالية برجالات المخابرات البريطانية، الذين كانوا يرافقونه حتى عندما يغشى أندية العري الليلية (حيث التقى راقصة وجعل منها زوجته الرابعة ـ ليس بنظام التعدد المباح في الإسلام ولكن بنظام تزوج، وطلِّق).
ثم رأى رشدي أن الولايات المتحدة توفر له هامشا ضخما لنيل النجومية، فاستقر فيها منذ عام 2000 م وفي 12 آب/ أغسطس الجاري، وبينما هو بصدد إلقاء محاضرة أمام حشد من أهل الأدب، في سياق الترويج لروايته الجديدة "مدينة النصر" باغته أمريكي لبناني الأصل اسمه هادي مطر، وسدد له طعنات متفرقة بسكين جعلته يصارع الموت لأيام وما زال نزيل المشفى ساعة كتابة هذه السطور؛ وبهذا يكون هادي مطر ـ في تقديري ـ قد ضمن الرواج لرواية رشدي الجديدة كما أسهمت فتوى الخميني في رواج الآيات الشيطانية.
ها هو هادي مطر يطعنه، وما لا يقتل رشدي يقويه إعلاميا ويخدم غاياته ترويجيا، وحتى لو أدت الطعنات إلى مصرعه فإنها تعيد الآيات الشيطانية إلى دائرة الضوء وتضمن لها رواجا جديدا، لتنافس روايته الجديدة "مدينة النصر".
ووجد بعض الغربيين في الخطر الذي هدد حياة رشدي ذخيرة يقصفون بها الإسلام، ويدمغون بها المسلمين على أنهم دمويون ورافضون لحرية الرأي والتعبير، مع أن التاريخ يقول لنا إنهم من كرس سياسة تصفية الكتاب والمفكرين الذين يخرجون على الحكام والكنائس، وهكذا تمت تصفية الإنجليزي كريستوفر مارلو، أبو الدراما في العصر الإليزابيثي، والذي وضع مداميك فن الكتابة الدرامية الذي جعل من وليام شكسبير علما، وهكذا تم قتل القس والفلكي والفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو حرقا لأنه انتقد الكنيسة، وهكذا قتل متشددون ألمان في ثلاثينيات القرن الماضي الروائي النمسوي هوغو بيتاور بسبب روايته "مدينة بلا يهود"، أبدى فيها تعاطفا مع اليهود، وقبل سنوات قليلة لقيت الكتابة الروسية آنا بوليتكوفسكايا حتفها على أيدي جلاوزة الرئيس الروسي بوتين، ثم لحق بها ثمانية من الكتاب الروس.
لا شك في أن سلمان رشدي كاتب روائي متمكن من أدواته، ولكن لا شك في أنه أيضا شخصية "هوائية"، والشخص الهوائي هو ذاك الذي إذا رأى جنازة حاشدة تمنى لو كان هو الميت، ولهذا فقد ظل سعيدا بفتوى الخميني بهدر دمه وما نتج عنها من جعله مالئ الدنيا وشاغل الناس (كما الشاعر المتنبي؟)، فقد صار يحظى برعاية أمنية لا يحظى بها رئيس وزراء بريطانيا وراجت مؤلفاته، وذاع صيته، وها هو هادي مطر يطعنه، وما لا يقتل رشدي يقويه إعلاميا ويخدم غاياته ترويجيا، وحتى لو أدت الطعنات إلى مصرعه فإنها تعيد الآيات الشيطانية إلى دائرة الضوء وتضمن لها رواجا جديدا، لتنافس روايته الجديدة "مدينة النصر".
لائحة من التنازلات الأمريكية لإيران
كيف نفهم تصريحات تركيا الأخيرة تجاه نظام الأسد؟
ليبيا.. الصدى المدوي لطبول الحرب