انطوت تصريحات الدكتور
الريسوني الأخيرة بخصوص
الصحراء
الغربية وموريتانيا وتندوف، على مفارقة كاشفة عن إشكالها الجوهري، فقد استدعت
النقد والتوظيف التعييري للموقف من التطبيع والتذكير بسبتة ومليلة، في حين أنّها
أرادت (أي تصريحات الدكتور) كسب المغاربة ضدّ التطبيع تحديداً؛ بالتأكيد على كون
المغرب لا يحتاج "إسرائيل" ولكنه يحتاج شعبه لحسم تلك القضايا، وإن كانت
موضوعة الصحراء هي أصل السؤال الذي بنى عليه الدكتور الريسوني استطراده في تقديم
أطروحة مفرطة في يمينيتها المغربية!
يبدو الأمر مأساويّاً في ظاهر المفارقة، حينما يُتّهم
الرجل بممالأة التطبيع الرسمي، بينما كان يقصد التأكيد على عدم الحاجة لهذا
التطبيع، وهو ما تضمّن بالضرورة نقداً خفيّاً للسياسات الرسمية التي تغفل العامل
الداخلي لصالح الاستعانة الخارجية، بيد أنّ الاندفاعة التي تجاوزت قضية الصحراء،
إلى موريتانيا وتندوف، واستحضار مفردة "الجهاد" في السياق، وتعليقها بالإرادة
الملكية، ومركزية التراب المغربي حول البيعة للملك، لم تكن حماسة زائدة، أو خذلان
توفيق، بقدر ما كانت أزمة نظريّة لا يكاد يسلم منها عموم
الإسلاميين المعاصرين،
وإن كانت دوافعها التقنية، ربما، الاحتماء بالقول إن من يرفض التطبيع؛ لا يقلّ
مغربية عمن يؤيّده لأجل الصحراء، وهنا زايد الدكتور بجمع موريتانيا وتندوف إلى
جانب الصحراء!
الاندفاعة التي تجاوزت قضية الصحراء، إلى موريتانيا وتندوف، واستحضار مفردة "الجهاد" في السياق، وتعليقها بالإرادة الملكية، ومركزة التراب المغربي حول البيعة للملك، لم تكن حماسة زائدة، أو خذلان توفيق، بقدر ما كانت أزمة نظريّة لا يكاد يسلم منها عموم الإسلاميين المعاصرين
تظهر هذه الأزمة في توضيحات الدكتور الريسوني التالية،
والتي قال فيها إنّ موقفه يستند للشرع والتاريخ، برفض التجزئة وما أنتجته اتفاقية
"
سايكس بيكو". وبغض النظر عن كون اتفاقية "سايكس بيكو" لا
تتعلّق باقتسام المغرب العربي الكبير، وإنما باقتسام تركة الدولة العثمانية في
منطقة الهلال الخصيب، فإنه يمكن اتخاذها رمزاً لعموم عمليات التجزئة الاستعمارية.
إلا أنّ الإشكال في التوضيح، في كونه يناقض جوهريّاً التصريحات الأولى للدكتور،
مما يعني ارتباك المرجعية السياسية للإسلاميين المعاصرين في موقفهم من الدولة
الحديثة، التي تتأطّر بخلق علاقة عضوية بين مجموعة بشريّة معيّنة وتراب معيّن
لإنتاج شعب معيّن، لا على أساس الولاء الإيماني، أو المركز السلطاني، مما قد يعني
تناقض مصالح المؤمنين المتفرّقين على الأتربة المختلفة، ومن هنا كان مفهوم الوحدة،
بين تصريحات الدكتور الريسوني الأولى وتوضيحاته التالية بالغ التشوّش بما لا يفيد
أيّ معنى متماسك.
المرجعية النظرية في تصريحات الدكتور الأولى، استندت
إلى عاملين مجتمعين، تاريخي سلطاني، وترابي حداثي. وهذا يمكن فهمه في التقليد
السياسي المغربي، وفي بنية الدولة المغربية التي تستند إلى عمق تاريخي سلطاني، وفي
الوقت نفسه تحوز على وضعها الراهن وفق النظام الدولي الحديث بمواثيقه المؤسّسة للعلاقات
الدولية، حيث الدولة هي الوحدة الأساس في بنية هذا النظام، بينما استندت توضيحاته
التالية إلى مفهوم الأمّة الإيماني برفضه التجزئة الناشئة عن التأسيس الاستعماري، مستخدماً
اتفاقية "سايكس بيكو" رمزاً لهذه التجزئة، وهو ما يعني بالضرورة رفض
الأساس الترابي الراهن، بسردياته المصطنعة في المنطقة العربية كلّها، ومن ثمّ وفي
حال أمكن فهم التمسك بمغربية الصحراء، فلا يمكن على ضوء هذا الاستناد التذكير
بمغربية موريتانيا أو تندوف، فضلاً عن الدعوة للمسيرة إلى تندوف.
المرجعية النظرية في تصريحات الدكتور الأولى، استندت إلى عاملين مجتمعين، تاريخي سلطاني، وترابي حداثي. وهذا يمكن فهمه في التقليد السياسي المغربي، وفي بنية الدولة المغربية التي تستند إلى عمق تاريخي سلطاني، وفي الوقت نفسه تحوز على وضعها الراهن وفق النظام الدولي الحديث بمواثيقه المؤسّسة للعلاقات الدولية
فرفض "سايكس بيكو" بما هي رمز للتجزئة، لا يترك
أي معنى للاختلاف حول وضع تندوف إن كانت في الجزائر أم في المغرب، فهي في النهاية
في بلد عربي أو بلد مسلم، ولكن المعنى يكون في الموقف من الانقسام على أساس هذه
الحدود الترابية بين بلاد ومجتمعات يجمعها كلّ شيء تقريباً، وحينئذ تكون الدعوة
إلى المصالحة وتسوية الخلافات بودّ وتغليب المصالح لعموم سكان المنطقة المغاربية
وتفعيل اتحاد مغاربيّ جدّيّ؛ أولى من الاستدعاء المؤدلج للأحقيات التاريخية وإبداء
الاستعداد للزحف والجهاد!
لم تكن، والحالة هذه، تصريحات الدكتور الأولى رفضاً
للتجزئة، وإنما كانت دعوة لتوسيع تراب المغرب، في إطار التجزئة القائمة. فهو في
أصل موقفه ينطلق من التجزئة إلى التجزئة، ومن سردية مغربية تاريخية سلطانية، ليفضي
الأمر نظريّاً إلى فوضى عارمة في المرجعيات السياسية. فالسردية التاريخية يفترض أن
تعمل في مستوى محدود لتشكيل مخيال واحد للشعب الذي تضمّه الحدود الترابية الراهنة،
والتي تحدّدت بدورها وفق معطيات تاريخية مثّل العامل الاستعماري واحداً منها،
لكنها في توظيف الدكتور الريسوني تتناقض مع المعطيات الحديثة التي صاغت بالتعاقد
علاقة المغرب مع دول جيرانه المتشكّلة من حوله، وكأن الدكتور يرفض ما يريده ويريد
ما يرفضه!
مشكلة السرديات التاريخية لتأسيس الشعوب المعاصرة في
إطار ترابي، أنها تتصوّر نفسها قبل تاريخية، أي كأن فلسطين، أو الأردن، أو المغرب،
أو الجزائر، كانت هكذا دائماً قبل التاريخ وفيه، لتؤول هذه التصورات إلى تشكّلات مفاهيمية
يمينية شعبوية، وحينئذ يستحيل الالتقاء على نقطة تاريخية محدّدة، فتكون الدعوى
التاريخية دعوى لا تاريخية. فإلى أي حقبة تاريخية ينبغي الرجوع لإثبات التحاق هذه
الأرض بتلك الأرض؟ وهل سكان هذه البلاد اليوم هم امتداد تاريخي مطّرد لسكانها في
تلك الحقب؟ وهل العلاقات التي قامت في حقب تاريخية سابقة بين سكان تلك البلاد، بما
في ذلك أنماط العلاقات السياسية والاجتماعية، وما قد يدخل فيها من مفاهيم البيعة
والملك والسلطنة، قامت على الأسس ذاتها التي تقوم عليها علاقات سكانها اليوم؟
لم تكن، والحالة هذه، تصريحات الدكتور الأولى رفضاً للتجزئة، وإنما كانت دعوة لتوسيع تراب المغرب، في إطار التجزئة القائمة. فهو في أصل موقفه ينطلق من التجزئة إلى التجزئة، ومن سردية مغربية تاريخية سلطانية، ليفضي الأمر نظريّاً إلى فوضى عارمة في المرجعيات السياسية
السردية التاريخية السياسية، هي سردية مؤدلجة، مما
يجعلها من الناحية المعرفية الصرفة لا تاريخية، سواء أرادت تكريس الحدود القائمة،
أم توسيعها، أم اصطناع شعب من العدم، أم نفي شعب قائم، وهذه السيولة في التوظيف
الأيديولوجي للسرديات التاريخية أوضح ما تكون في فجاجتها في حالة
"إسرائيل"، وهي غير غائبة عن السجالات العربية الداخلية، وعلى نحو هزلي.
ففي حين تظهر مقولات داخل الجزيرة العربية تنفي عروبة
كلّ من هو خارجها، فإنّ مقولات أخرى في الشام الكبير ومصر والعراق والمغرب الكبير
تعدّ العرب الذين هم فيها اليوم غزاة، وهكذا، حتى في إيران وتركيا. وقد ترجع
الادعاءات التاريخية إلى حقب مغرقة في القدم مختلفة في طبائع الاجتماع فيها عمّا
هي عليه اليوم، كالعودة إلى أزمنة الساسانيين والسومريين، مما يحيل إلى عمق أزمة
الدولة الحديثة في هذا المجال الجغرافي الكبير، ومما يكشف عن كارثية فوضى الادعاء
التاريخي في سجالات الواقع السياسي الراهن.
وفي حين أن الدكتور الريسوني، ليس متفرّداً بهذه
التناقضات من بين عموم الإسلاميين المعاصرين، فإنّه يبقى القول إن تذكيره بسبتة
ومليلة لم يكن إلزاماً له إلا بمعاييره هو كيفما كانت، ترابية مغربية أم أممية
إسلامية، فالوحدة على أساس تصفية الاستعمار الأجنبيّ أولى منها على أساس الجهاد
ضدّ الجار المسلم أو العربي.
يقود هذا السجال إلى مناقشة أوسع للتناقضات الحاصلة في الدائرة نفسها، ما بين المطالبة بالحقوق على أساس إيماني أو أخلاقي، وبين التسليم بالواقعة السياسية القائمة (الدولة الحديثة) التي تقبل في جوهرها تناقض المصالح بين الإخوة ما داموا متفرّقين في وحدات سياسية منفصلة
وأمّا تذكيره بالتطبيع، وإن كان داخلاً في المفارقة
المذكورة في مطلع هذه المقالة، إذ أراد باسم "الوطنية المغربية والولاء
للملك" نقد تطبيع دولته مع "إسرائيل"، فإنّه تذكير وجيه، بالنظر
إلى أنّ نقده للتطبيع بصيغته التي قالها لم يكن جذريّاً، فقد جعله في مقابل مصلحة
المغرب، أي هل يمكن تحقيق المصلحة المغربية بضمّ الصحراء الغربية بالتطبيع مع
"إسرائيل" أم بدونه؟ ومجرد نقد التطبيع من هذه الوجهة هو ارتكاس في
"سايكس بيكو" التي قال الدكتور إنه يرفضها، والتي فلسطين أهمّ ضحاياها
وأوضحهم على الإطلاق!
وعلى أية حال، يقود هذا السجال إلى مناقشة أوسع للتناقضات
الحاصلة في الدائرة نفسها، ما بين المطالبة بالحقوق على أساس إيماني أو أخلاقي،
وبين التسليم بالواقعة السياسية القائمة (الدولة الحديثة) التي تقبل في جوهرها
تناقض المصالح بين الإخوة ما داموا متفرّقين في وحدات سياسية منفصلة. وتظهر هذه
المعضلة بوضوح في السجالات التي تدور حول فلسطين أو حول مواقف قواها والفاعلين
فيها تجاه قضايا عربية محيطة، بالرغم من أن مأساة فلسطين في جانب أساسيّ منها، ومحدودية
قدرة قواها بالضرورة، محكومة إلى حالة التجزئة المحيطة، وإخلاء المسؤولية المعلن
أو الضمني تجاه فلسطين.. وهو ما يستدعي حديثاً قائماً بنفسه.
twitter.com/sariorabi