تتواتر كل حين اعتداءات عنصرية ضد سوريين في تركيا ولبنان، تستهدف بصورة خاصة فقراء أو القطاعات الأكثر انكشافاً والأدنى حماية بين اللاجئين.
وتبدو العنصرية وثيقة الصلة في تركيا بنزعة قومية محتقنة دوماً، تفر فراراً من العربي ومن في حكمه كنموذج لما لا تريد أن تكونه منذ تأسيس الجمهورية الكمالية، وبالضبط لأنه يشبهها، وجمعه بها تاريخ ودين وعناصر ثقافية متعددة كان من أهمها حتى 90 عاما انقضت الحرف العربي.
في لبنان تبدو العنصرية أوثق صلة بأزمة اجتماعية وسياسية مديدة ومتفاقمة، يبحث لها عن كبش فداء من يتحلمون المسؤولية الأساسية عنها، وهذا كذلك على خلفية منازع طائفية وكيانية محتقنة بدورها، تحفز على التمايز عن السوري المنكشف والمستباح، بالضبط لأن التمايز غائب. في الحالين تلعب “نرجسية الفروق الصغيرة”، رفض التماثل مع المثيل، دوراً حاسماً، وفي الحالين لا تتوجه العنصرية تجاه غيرية الفروق الكبيرة، التي إن لم يجر التماهي بأصحابها، فإن اختلافهم يحميهم.
غير هذه العلاقة الملتبسة بالنفس وأحوالها في العالم التي ينكأها “السوري”، ما الذي يخص السوريين ويجعلهم موضع اعتداءات عنصرية متكاثرة؟ تهتم المقالة بالقابلية السورية للعنصرية إن حاكينا عبارة لمالك بن نبي عن القابلية للاستعمار، لكن بدلالة مختلفة بعض الشيء. فالقابلية للعنصرية قابلية أوضاع وليست قابلية كيان أو هوية أو استعداد موروث.
ويتمثل أول هذه الأوضاع أن السوريين مستباحون في بلدهم، تعرضوا للاعتقال والتعذيب والاغتصاب والقصف والحصار والتجويع والتهجير، وهم يخشون العودة إلى البلد إما خوفا على حياتهم أو لأنه لم تعد لهم حياة في البلد، كأن تكون تدمرت بيوتهم أو احتلت من قبل جوار عدوائي أو تحطمت كل بيئة عيشهم قبل اللجوء.
يتعلق الأمر في الغالب بأناس منكشفين وبلا حماية في بلدهم، وإن أخذ انكشافهم قبل اللجوء شكل الحرمان من الظهور العام والتعبير عن شكاواهم، أي الشكل العام لمحكومي نظام طغيان بالغ الفساد. أما بعد الثورة فقط أخذ الانكشاف شكل استهداف مباشر لهم في حياتهم وملكياتهم وبيئات حياتهم.
سوريو تركيا ولبنان، ومعهم في ذلك سوريو الأردن، هم اللاجئون بالمعنى الحرفي للكلمة، أي الذين لاذوا بأقرب ملجأ ممكن، ولم يذهبوا إلى بلدان أبعد مع ما يتضمنه ذلك من اختيار وقدرة على الوصول.
ومن المتوقع بالتالي أن شرائح واسعة منهم فقيرة، وتشغل مواقع في أدنى السلم الاجتماعي في هذه البلدان القريبة، إلى جانب الأشد فقرا من هذه البلدان أو من العاملين الأجانب فيها. فإذا كانوا لا يعودون إلى بلدهم رغم الاعتداءات العنصرية المتواترة، فلأنهم يخشون الأسوأ حتى من العنصرية والإذلال. قابلية العنصرية هنا مصنوعة من الفرق بين الموت وتشرد الأسرة في “الوطن” وبين ذل التمييز في بلدان اللجوء.
في المقام الثاني لا يشكل اللاجئون المحرومون من دولة فعلياً، وإن لم يكن قانونياً، جماعة سياسية، وليس لهم تمثيل سياسي يحميهم أو يدافع عن مصالحهم أو يعرض قضيتهم ويبقيها موضع تداول مستمر. ليس هناك حقوق للإنسان بما هو إنسان خلافاً لما تقضي به إيديولوجية حقوق الإنسان الدولية. الحقوق متعلقة بالارتباط بجماعة سياسية، بدولة وجنسية ومواطنة، مثلما أظهرت حنه آرنت بخصوص لاجئي أوربا، وخصوصا اليهود، بعد الحرب العالمية الثانية.
ليس هناك حقوق للإنسان بما هو كذلك، المواطن وحده له حق في أن تكون له حقوق. السوريون ليسوا مواطنين في بلدهم، وإن حملوا جنسيته، ليسوا محميين بالتالي، ولا حقوق لهم. نظامهم في قرارة نفسه أقرب إلى الاغتباط بسوء معاملتهم في البلدان الأخرى، ولم يسجل حتى احتجاج شكلي واحد من الحكم الأسدي على ما يتعرض له “المواطنون” السوريون في لبنان وتركيا وغيرهما.
ولا يحوز السوريون في تركيا ولبنان وضع اللاجئين والحقوق المترتبة عليه. وتحتاج نسبة كبيرة منهم إلى دعم المنظمات الإنسانية الدولية التي “تؤنسن” قضيتهم، فتنزع صفتها السياسية، خلافاً لوضع اللاجئين الأوكرانيين اليوم. ومع ذلك يحدث أن ينعكس هذا الوضع في صورة أن السوريين ينعمون بامتيازات لا يحظى بمثلها المواطنون. في تركيا كانت تروج بين وقت وآخر أساطير عن أن الحكومة تدفع رواتب للاجئين السوريين، وأنهم يشاركون في الانتخابات التركية، ويُحمَّلون مسؤولية مصاعب اقتصادية تركية مثل التضخم والبطالة وارتفاع الإيجارات.
ولا تقوم وكالات الأمم المتحدة، ولا الحكومات التي تفضل الظهور بمظهر الأب الصالح الكريم، بواجبها في توضيح الحقائق. وكالات الأمم المتحدة بالذات فاسدة ومتواطئة بقدر كبير مع النظام السوري، مثلما أظهر كتاب صدر العام الماضي للأكاديمي الألماني كارستن فيلاند الذي كان دبلوماسياً وذا خبرة مباشرة بـ”الملف السوري”.
نزعة الصعود الاجتماعي الجامعة لموظفي الأمم المتحدة تضعهم على قرب من أسوأ الأنظمة، إن لم تجعلهم فاسدين تماماً. موظفو الأمم المتحدة في دمشق يقيمون في فندق الفورسيزنز الفخم، وتشغل أكلاف معيشتهم بندا عاليا في أكلاف عمليات الأمم المتحدة التي كانت تتعاون مع جمعية البستان لرامي مخلوف ومع منظمة أسماء الأسد “غير الحكومية”، الأمانة السورية للتنمية، وغيرها.
ولا تحظى الأجسام السورية المعارضة بحد أدنى من الصفة التمثيلية والاحترام، ولا تحرك ساكناً للدفاع عن اللاجئين السوريين أو مجرد التنديد بالاعتداءات عليهم. الائتلاف في تركيا يبدو أقرب إلى ممثل لتركيا بين السوريين منه إلى ممثل للسوريين مقره في تركيا.
في المقام الثالث صار ينظر إلى الصراع السوري منذ عام 2013 ضمن موشور الحرب ضد الإرهاب، وهذه في كل أمثلتها المعروفة هي حرب الأقوياء على الضعفاء الذين يعتبرون بيئات حاضنة للإرهابيين.
لم يعد أحد من الدول في عالم اليوم ليس محارباً ضد الإرهاب منذ ظهور داعش، بل إن بعض منظمات ما دون الدولة ممن كانت ولا تزال على قوائم الإرهاب صارت شريكة في الحرب الدولية ضد الإرهاب الذي تمثله داعش والقاعدة. وهذا وضع السوريين الذي ظهرت داعش في بلدهم وكانت تحتل أجزاء منه، واتخذت من إحدى مدنهم عاصمة، في موقع أشد انكشافاً بعد وأقل حظوة بالتعاطف، ليس في بلدان لجوئهم فقط، وإنما عالمياً كذلك.
لا نكاد حيثما كنا كسوريين نستطيع مفصلة قضيتنا مع معان إيجابية بفعل ثقل مخيلة ورمزيات وتداعيات محاربة الإرهاب. غاية ما يبقى لنا هو خطاب المعاناة، وهذا يتوافق مع تجريدنا من السياسة والمعنى السياسي. العنصرية لا تأخذ حتماً شكل تمييز نشط أو اعتداءات متواترة، بل قد تأخذ شكل سحب الاهتمام بحياة المعنيين، اللامبالاة باستحقاقهم للمساواة وللحقوق، وبطبيعة الحال وهن الرابطة التي تربطهم بالمجتمعات المضيفة وبالبشرية ككل.
وما وضع عموم السوريين في هذا الموضع الغارم، وضع نظامهم في موقع غانم. فمنذ بداية الثورة تبنى النظام لغة الحرب ضد الإرهاب، وصار شريكا للمحاربين، يتعاملون معهم ويعتبرونه ضمناً الشر الأقل، إن لم يكن البديل الوحيد عن نفسه.
والخلاصة أن العنصرية في كل صورها وثيقة الصلة بهياكل السلطة المحلية والدولية، بعلاقات القوة وبنى السيطرة القائمة، وليست أحكاماً مسبقة أو انحيازات محلية ضيقي الأفق. هذه تفعل فلعها فقط بقدر ما تتراكب مع بنى سلطة تستثمر فيها، مثلما هو جار في لبنان وتركيا. القابلية للعنصرية هي نتاج الانكشاف السياسي للسوريين في عالم ما انفك يغذي العنصرية منذ عقود باسم الحرب ضد الإرهاب.