كتب

"غزوة خيبر" في كتاب.. الرؤية والمشروع والقضايا

مكانة غزوة خيبر في التاريخ الإسلامي في كتاب

الكتاب: " غزوة خيبر، الرؤية والمشروع والقضايا "
الكاتب: الدكتور أسامة الأشقر
الناشر: دار أكيول للنشر والتوزيع، تركيا 2021
عدد صفحات الكتاب 359 


تعتبر الكتابة التاريخية واحدة من الكتابات المركبة التي تحتاج من الباحث اطلاعا واسعا وتقديرا عاليا لواقع الفترة التاريخية التي يكتب عنها، ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت القضية التي يُراد الكتابة عنها تحتاج إلى معرفة لغوية عالية لطبيعة النصوص التاريخية ذات العلاقة، إضافة للحاجة إلى اطلاع واسع على كتب التراث وعدم الاقتصار على كتب التاريخ؛ لشحّ النصوص وتشتتها في المصادر المتناثرة، التي يُراد البحث فيها.

ولقد استطاع المؤلف هنا في كتابنا الذي سنتناوله بالحديث، أن يحقق الكثير من هذه المتطلبات التي أشرنا إليها، فهو إضافة إلى قدرته اللغوية الأصيلة، فإنه قد كتب رسالة دكتوراة عن الأدب اليهودي في شمال غرب الجزيرة العربية، وفيه فصل خاصّ عن اللغة والكتابة عند يهود خيبر والحجاز، وهذا يعزز من قدرة الباحث على فهم المادة ـ وبطبيعة الحال ـ الإلمام بالمادة التاريخية من مصادر شتى، تفيده في لملمة شتات الموضوع الذي لم تستوعبه المصادر التاريخية بطريقة منهجية مفصلة، وإنما جاءت الروايات الواردة حول الموضوع مشتتة متفرقة ومتشابكة مع روايات غزوة حنين.

وقد انصرف الباحث في كتابه إلى منهجية فريدة، جمع فيها بين أدوات التاريخ والسياسية والتحليل النفسي، إضافة إلى مطالعات الفقهاء والأصوليين والمحدثين، وغير ذلك من الحقول العلمية المختلفة التي تفيد واحدةٌ منها الأخرى، بما يغلق الفجوات التاريخية التي لا تغطيها الروايات بشكل واضح وصريح، وهذه الميزة ـ أقصد تعدد أدوات الباحث ـ واحدة من أهم ما يميز الكتاب الذي نطالعه هنا، فليس من اليسير أن تجد كاتبًا يملك من الأدوات التي تعطيه القدرة لإعادة صياغة مجموعة من الروايات التاريخية المتناثرة في كتب الفقه واللغة والأدب والتاريخ، ليجمعها في نسق أقرب إلى السياق الروائي.

وضع الباحث غزوة خيبر ضمن سياق استراتيجي عام للنبي صلى الله عليه وسلم، بدأ بتوقيع صلح الحديبية 6هـ الذي اعتبره بعض الصحابة حينها تنازلا سياسيا غير مرض من طرف النبي لقريش، إلا أنه ثبت لهم أنه كان تكتيكا مهمّا، في سياق نظرة استراتيجية مبنية على علم وخبرة كبيرة، جعلت النبي يوقع الصلح من أجل التفرغ لخطوات تؤسس بشكل عملي لفتح مكة بالطريقة التي تمت بها.

 

وهذه الفكرة التي تحوم حولها بعض الكتابات المعاصرة، التي ترى في سلوك النبي سلوكا استراتيجيا يبني خطوة على غيرها، تبدو فكرة تبنى على العلوم الحديثة، ولكن الباحث هنا كما غيره من الباحثين، استطاعوا أن يبرهنوا بالكثير من الأدلة أن سلوك النبي لم يكن سلوكا عشوائيّا أو توجيهات إلهية، بقدر ما كانت تعبِّر عن ذكاء القائد وسعة اطلاعه وحسن فهمه للسياق المحلي والإقليمي، وإحسانه في ترتيب الأمر خطوة للوصول إلى غيرها.

قسَّم الباحث كتابه إلى توطئة ومدخل وأربعة عناوين رئيسية. جاء في التوطئة حديث مهمٌ عن منهج الكاتب وأبرز معالمه في كتابه، الذي أسَّس فيه لما قال إنه محاولة لتقديم مشهد متكامل مترابط للأجزاء في غزوة خيبر ضمن سياقها الكامل، وسعى في محاولة لقراءة شبه يومية للأحداث واستغراق الوسع في توضيح قضايا استشكلت على الباحثين.

أما المدخل، فقد كان توضيحا للبيئة الجغرافية الجبلية التي بنيت عليها الحصون والطبيعة الزراعية التي شكلت عصب اقتصاد المنطقة التي عاش فيها سكان خيبر. جاء العنوان الأول تحت مسمى من الحديبية إلى خيبر، وفيه تفصيل لما كان عليه الموقف العام في الحجاز قبل غزوة خيبر، ثم العمليات النوعية التي أمر بها النبي قبل الغزوة، كعملية اغتيال أبي رافع سلام بن أبي الحقيق في حصنه في خيبر، ثم تحرير التاريخ الذي حصلت فيه الغزوة بين 6 ـ 7 هـ، ثم تناول دور يهود بني النضير الذين انتقل كثير منهم إلى خيبر بعد إجلائهم من المدينة المنورة. وأخيرا، تناول الكاتب الاستعدادات النبوية التي وصفها بالعلنية للمعركة وطبيعة التشكيلات العسكرية التي شكَّلها حوالي 1500 مقاتل منهم حوالي 200 فارس، والتكتيكات النبوية التي اتبعها النبي، والتي شكل "تفكيك منظومة الجغرافيا القتالية، من خلال اختراقها والعمل على تحييدها" واحدا من أبرز معالمها، باعتبار الجغرافيا واحدة من أصعب ما واجهه المسلمون في هذه الغزوة.

 

وضع الباحث غزوة خيبر ضمن سياق استراتيجي عام للنبي (ﷺ)، بدأ بتوقيع صلح الحديبية 6هـ، الذي اعتبره بعض الصحابة حينها تنازلا سياسيّا غير مرض من طرف النبي لقريش، إلا أنه ثبت لهم أنه كان تكتيكا مهمّا، في سياق نظرة استراتيجية مبنية على علم وخبرة كبيرة، جعلت النبي يوقع الصلح من أجل التفرغ لخطوات تؤسس بشكل عملي لفتح مكة بالطريقة التي تمت بها.

 

انتقل الكاتب في العنوان التالي إلى الحديث عن يوميات الحرب في خيبر، وهذا العنوان شكل العنصر الأهم في هذا الكتاب، وفيه تولى الباحث تتبع الأحداث في خيبر من بداية كل معركة على حصن، وانتهاء بتحرير كامل المنطقة والحصون ثم المناطق المحيطة بها، حيث قسم الباحث سير العمليات القتالية حسب المناطق إلى ثلاث مناطق، كل منطقة لها حصونها ولها معاركها ولها طبيعتها؛ من حيث حجم المعارك وحجم الانتصارات والغنائم وأثرها على سير المعارك، كما تناول الباحث بالتفصيل موضوع الرايات التي ظهرت في هذه المعركة، وطبيعة القيادات والجنود التي حارب بهم النبي وطبيعة أدائهم العسكري خلال هذه المعركة، خاصة مع ما تثيره القضية من حساسية بين المذاهب الإسلامية، وتقديم رواية وتأخير غيرها لحساب أحد الصحاب وبطولته وشجاعته. 

والأمر الآخر الذي حرره الباحث بتفصيل زواج السيدة صفية بنت حيي من النبي (ﷺ)، ووضع هذا المشهد ضمن الرؤية الشاملة لما حصل في الغزوة وما ترتب عنها، وحاول إظهار حقيقة الانفعالات النفسية والعاطفية، التي وصلت بالسيدة صفية أن تكون زوجة للنبي، في الوقت الذي قتل فيه عددا كبيرا من أهل قبيلتها وأفراد أسرتها.

ناقش الباحث في العنوان التالي قضية تسميم النبي على يد وضعت له السمّ في شاة، وعلى الرغم من شهرة القضية وشيوعها، إلا أن في ملابساتها الكثير من التفاصيل التي حاول الباحث تفكيكها، ثم رسم ملامحها القريبة من الواقع، وأجاب بشيء من التفصيل على العديد من الأسئلة حول كيفية وصول هذه الهدية بين يدي النبي، وهل كانت هذه الفكرة وحدها أم أنها جاءت ضمن مؤامرة شارك فيها غيرها، وما نوع السم المستخدم وكيف كان أثره على النبي، وهل مات به كما يروي البعض، أم أنه لم يكن له تأثير، أم أن تأثيره لم يظهر في لحظته، وإنما استمر أثره حتى تسبب في الوفاة بعد مدة من الزمن.

يطالعنا الباحث بعد ذلك بعناوين متفرقة، يؤسس في كل واحد منها لمسألة بالغة الأهمية في أثر فتح خيبر على حال المسلمين، فمما سماه الباحث تأسيس المشروع الاقتصادي الإسلامي وتحقيق الرخاء بفعل الغنائم والفيء الذي حصله المسلمون بفعل الفتح، وكيف كان تأثير ذلك على تغير حال المسلمين بشكل ملموس في طبيعة طعامهم وشرابهم وحياتهم المعيشية، ثم تناول الباحث بشكل متميز مسألة التشريعات الإسلامية، التي ارتبط الحديث عنها بخيبر مثل: تحريم أنواع من الحيوانات كالحمر الأهلية وكل ذي ناب السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم زواج المتعة ووضع كل واحدة من هذه القضايا وغيرها ضمن سياقها التاريخي، وهذه واحدة من المسائل التي تعطي البحث أهمية مضاعفة للمفتي والفقيه؛ حيث يوضع الحكم الشرعي ضمن سياقه الواقعي الحقيقي.

ولا يغيب عن الباحث الحديث مسألة توزيع الغنائم، وهي مسألة بالغة الأهمية والحساسية؛ بسبب كثرة الغنائم وحصر عدد المستفيدين منها على المشاركين في الفتح رجالا ونساء، وقد حرر الباحث مسألة مشاركة النساء وأسبابها، ثم الحديث عن بعض المسلمين الذين التحقوا بالجيش بعد فتح خيبر كالمسلمين العائدين من مهاجرهم في الحبشة، واستئذان النبي للجيش في إعطائهم من الغنائم بسبب واقعهم. وللباحث حديث مهم عن مهاجري الحبشة في سياق كلامه، يستحق النظر والاهتمام، ويعبر عن تعمق الباحث في هذه المسألة التي قدم فيها برنامجا تلفزيونيا، تناول فيه مسألة إسلام أفريقيا، التي كان لمهاجري الحبشة فيه دور أساسي.

ولم يغب عن الباحث أن يضع ويوثق أسماء الشهداء الفاتحين بشكل دقيق، وختم بالحديث عن مسألتين مهمتين: دور الإعلام في غزوة خيبر، وطبيعة التراتيب الإدارية والسياسية بعد خيبر. وهما من المسائل بالغة الأهمية التي استطاع الباحث وضع ملامحها بشكل مرض، على الرغم من قلة الروايات التاريخية التي تغطي هذه المساحة، وهذا كان واحدا من ميزات الكتاب التي تحدثنا عنها في البداية، حيث استطاع المؤلف أن يضعنا في صورة الفتح وتفاصيله السياسية والإدارية والعسكرية والإعلامية، وآثارها على الواقع الإسلامي برمته، وتأثيرها على مستقبل المسلمين الذي تكلل بفتح مكة.
 
أخيرا، فإنه كان يمكن للكتاب أن يكون أكثر ترتيبا وتوزيعا على فصول أو مباحث بشكل أكثر تنظيما وترتيبا، كما كان من أهم ما يجب على الباحث فعله برأيي أن يضع صورا للموقع أو رسومات توضيحية، كان يمكن أن تعزز الكتاب بشكل كبير، وتزيده حيوية وتفاعلا على ما فيه من أسلوب مميز لرسم صورة الأحداث. وضمن سياق المستجدات في ميدان الصور الجوية والخرائط وعلوم التصميم عبر الحاسوب، كان يمكن أن يستعين الباحث بأهل الخبرة لوضع صور وخرائط وتصميمات تحاكي الواقع الذي رسمه بكلماته.

أما الأمر الآخر، الذي كان يمكن أن يشكِّل إضافة مهمة إلى البحث، فهو الرواية اليهودية للحدث، فالبحث استفرغ وسعه في جمع الروايات والأخبار من كتب التراث الإسلامي، ولكنه أغفل رواية اليهود أنفسهم للمسألة، ولم يشر إلى أي محاولة للاستفادة من التراث اليهودي في هذه المسألة بالغة الأهمية والحساسية عند اليهود حتى اليوم، على سبيل المثال ما أشار إليه الباحث الإسرائيلي إسحلق بن تسيفي، حول وجود قبائل عربية في فلسطين تعود في جذورها إلى خيبر.

الكتاب بمجمله يستحق القراءة ويستحق أن يكون كتابا يدرسه الطلبة كنموذج للكتابة التاريخية، التي تستخدم الحقول العلمية المتداخلة في إعادة تركيب روايات التاريخ للوصول إلى رسم صورة أقرب للحدث وأكثر إقناعا لما كان.

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم.


الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع