يعتقد الكاتب والمفكر الجزائري الدكتور عبد الرزاق مقّري رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية "حمس"، أن الاستمرار في الترويج للفصل النكد بين العلم والإيمان والدين والدولة، هو تضليل لا مسوغ عقلي أو تاريخي له، وأن الفهم الصحيح للعلاقة بين الدين والدولة تكاملي يدعم بعضه بعضا، وأن الإيحاء بوجود تناقض بينهما هو دليل انحراف في الفهم.
قراءة المفكر الجزائري المنشغل بالنشاط السياسي الحركي من دون أن يغفل الجانب الفكري، والتي تنشرها "عربي21" كل يوم خميس من الأسبوع، بالتزامن مع نشرها على صفحته الخاصة على الأنترنت، تأتي انطلاقة من إعادة قراءة تأسيس العلاقة بين الدين والدولة كما تمثلت في نموذج الهجرة النبوية إلى المدينة، وما تلاها من عصور راوح فيها العالم الإسلامي بين النهوض والأفول، ثم يقدم قراءته لذات العلاقة كما بدت في قيام وتطور الدول الغربية.
الحضارة الغربية والمسألة الدينية
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة مقالات تتحدث عن صعود وسقوط الحضارات وعن تأثير الفكرة الدينية في ذلك، وقد وصل بنا الحديث في هذا الموضوع المتشعب إلى متابعة نشوء الحضارة الغربية على أساس ديني كغيرها من الحضارات البشرية في نهاية القرون الوسطى وبداية عصر النهضة وكيف بدأ العلم يفارق الدين ثم يخاصمه في القرن السابع عشر وما بعده لأسباب فلسفية علمية، ودينية سياسية، وخارجية دولية.
وقد بدأنا في التفصيل في السبب الأول المتعلق بالظروف التي جعلت الفلاسفة والعلماء الأوربيين يُحرجون ثم يخافون ثم ينقلبون على الدين ابتداء من طبقة العلماء والفلاسفة الذين كانوا هم ذاتهم من رجال الدين أو متدينين، إلى طبقة الفلاسفة والعلماء الذين حاولوا التوفيق بين الحقائق العلمية والمسلمات الدينية، إلى الذين أنكروا المقدسات المسيحية أو خاصموا الدين وأنكروا الوحي.
وقد تحدثنا في المقالات السابقة عن العلماء والفلاسفة الأبرز من الطبقة الأولى والعلماء الطبيعيين الأكثر تأثيرا في الطبقة الثانية، وسنتحدث في هذا المقال عن الفلاسفة الذين مهّدوا الطريق لخروج الحضارة الغربية من الارتباط بالدين في الشأن السياسي ونشوء معتقدات لا دينية صارت شائعة في الغرب (ثم في العالم) ضمن تاريخ أوروبي خالص لا علاقة له بتاريخ الحضارات الأخرى.
إن كل مهتم بتاريخ الفلسفة وتطور العلوم في أوروبا يندهش من الكم الهائل من الفلاسفة والعلماء الذين وجدوا أنفسهم في صراع مرير بين الحقائق العلمية التي توصلوا إليها بالتحليل العلمي والمنهج التجريبي والمعتقدات الدينية المسيحية واليهودية التي لم يستسغها العلم الذي توصلوا إليه، فاتجهوا إلى إنكار الدين أو على الأقل إبعاده عن الحياة العامة. غير أننا سنكتفي بثلاثة منهم هم الأبرز والأكثر تأثيرا في القرن السابع عشر الذي حُسم في آخره الصراع بين العلم والدين لصالح العلم وهم توماس هوبس وجون لوك وباروخ سبينوزا. لنتحدث بعد ذلك بحول الله عما يسمى عصر التنوير وتأثيره على الصورة التي عليها الحضارة الغربية اليوم في علاقتها بالدين، وما هو المستقبل المتوقع لها وفق نظريات علماء فقه التاريخ وحضارات الأمم مثل عبد الرحمن بن خلدون وأرنولد توينبي وديورانت ومالك بن نبي.
توماس هوبس (Thomas Hobbes 1588-1679)
توماس هوبس فيلسوف وسياسي إنجليزي أثر كثيرا في بروز الفلسفة الحديثة في أوروبا في بداية القرن السابع عشر، التي أطرت خروج المرجعية الدينية المسيحية من الحكم وجعلتها تحت سلطة الدولة بعد أن كانت الدولة تحتها، كما ساهم في انتشار الفلسفة المادية.
ويعتبر هوبس من أهم الفلاسفة الذين ابتعدوا عن التوجهات التوفيقية بين المعتقدات الدينية والحقائق العلمية التي كان عليها فلاسفة القرن الخامس عشر والسادس عشر وبعض معاصريه في القرن السابع عشر، مثل رينيه ديكارت وغاليليو. كما يعتبر هوبس من المساهمين في بروز "الليبرالية" واتجاهاتها الفكرية الاقتصادية في القرن العشرين، كما يعتبر الوريث الأبرز للفلسفة السياسية الواقعية التي أسس لها نيكولاس ماكيافيل وبعده جون بودان، و"الاتجاه السياسي الواقعي" المهيمن في العلاقات الدولية في العصر الراهن.
اعتبر هوبس في كتابه "عن المواطن" (De Civet) الذي صدر سنة 1642 أن الحل للحروب الدينية التي عاصرها أن توضع السلطة الدينية تحت تصرف الحاكم كوظيفة من وظائفه السلطوية. غير أن مساهماته الأهم وردت في كتابه "التنين" (Le leviathan) الذي كتبه 1614 واعتبر فيه أن الحالة الطبيعية للإنسان حالة متوحشة وأن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، حريص بطبعه على البحث عن مصالحه دون مصالح غيره، وأنه على استعداد دائم للاستيلاء على ما في يد غيره مما هو في حاجة إليه، وأنه غير مجبول على الحياة الاجتماعية وأن الحالة الطبيعية التي يكون عليها أصليا هي حالة الحرب الدائمة، "حرب الكل ضد الكل"، غير أن الناس حسبه يمكنهم أن يتحولوا إلى "الحالة المدنية" من خلال اتفاقهم عبر "عقد اجتماعي" على التنازل عن جزء من حقوقهم الطبيعية لواحد منهم يحكمهم ليمنع عدوان بعضهم على بعض ويضمن أمنهم وحياتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية، على أن يكون الحكم الذي يخضعون له مطلقا يتمتع بكامل "السيادة" والحق في الإكراه بالقوة، وأن لا تكون مرجعيته دينية بل يكون هو صاحب الشرعية الوحيدة في سن القوانين، ويعتبر هوبس أن الحكم الأنسب لتحقيق المصلحة الوطنية ومصالح الأفراد هو الملكية المطلقة.
يعتبر هوبس من رموز تيار "الربوبيين" ومن التيار الواقعي الذي أسس له من قبله نيوكالا مكيافيللي الذي ينظر إلى الدين كضرورة اجتماعية تستعمل للتأثير على الناس، وهناك من يعتبره بأنه وضع نفسه في موقع نبي جديد لأوروبا، وهذه الحالة شائعة عند كثير من الفلاسفة بسبب الفراغ الديني المهول الذي صنعته الانحرافات الكنسية
وبالرغم من اتجاهاته الدينية المعادية للهيمنة الكنسية ودعوته للعقد الاجتماعي الذي يمنح الشرعية للحاكم دون غيره، يُعتبر هوبس عند كثير من الفلاسفة الذين عاصروه والذين جاؤوا من بعده أنه موغل في اتجاهه المحافظ المعادي للديمقراطية بسبب وقوفه مع الملك الإنجليزي شارل الأول ضد التيار البرلماني. وبسبب موقفه السياسي هذا لجأ إلى فرنسا سنة 1640 عندما مالت الأحداث في إنجلترا لصالح البرلمان ومكث في فرنسا قرابة عشر سنوات كلف أثناءها سنة 1647 لفترة برعاية وتعليم الأمير الإنجليزي اللاجئ في فرنسا الذي سيصبح لاحقا ملك إنجلترا شارل الثاني.
اتهم هوبس بالإلحاد وأن كتبه تدعو لتقويض الأخلاق واعتبره الكثير في بلاط الملك والبرلمان بأنه المتسبب في جلب المصائب الطبيعية التي وقعت في إنجلترا مثل داء الطاعون سنة 1665 والحريق الكبير في لندن سنة 1966، غير أن قربه من الملك شارل الثاني وفر له الحماية ومكنه من العودة إلى لندن على أن لا يعود للكتابة باللغة الإنجليزية في القضايا الدينية والسياسية.
كتب هوبس نسخة جديدة لكتابه التنين باللغة اللاتينية بأمستردام سنة 1668 أضاف فيها فصولا ثيولوجية دافع فيها عن نفسه من تهمة الإلحاد ولكنه ذهب بعيدا في إنكار كثير من المعتقدات المسيحية كالإيمان بالله دون الإقرار بالرعاية الإلهية للكون واعتبار الدين حالة نفسية طبيعية متعلقة بالخوف من المستقبل وإنكاره لوجود الملائكة، مع تأكيده للإيمان بعذاب جهنم كوسيلة لكسب طاعة المواطنين لخوفهم من العذاب الأخروي.
يعتبر هوبس من رموز تيار "الربوبيين" ومن التيار الواقعي الذي أسس له من قبله نيوكالا مكيافيللي الذي ينظر إلى الدين كضرورة اجتماعية تستعمل للتأثير على الناس، وهناك من يعتبره بأنه وضع نفسه في موقع نبي جديد لأوروبا، وهذه الحالة شائعة عند كثير من الفلاسفة بسبب الفراغ الديني المهول الذي صنعته الانحرافات الكنسية، قبل أن يغلب التيار الإلحادي وتيار "اللاأدريين" بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين.
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (1)
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (2)
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (3)
ماذا وراء تجدد الجدل العقدي حول الصفات الإلهية؟
الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (3)
هل يجب على المسلم اعتناق مذهب عقائدي بعينه؟