ما خضع بلد لنظام حكم ديكتاتوري لدهر طويلٍ، إلا وتخلخلت أوصاله وانهارت جدرانه، فالديكتاتورية، وهي حكم الفرد أو حكم مجموعة صغيرة ملتفة حول ذلك الفرد، تكون فيها القبضة على مفاصل الدولة وأجهزة الإعلام حديدية، وتمارس الأنظمة الديكتاتورية الترويع والقتل والسجن والتشريد بحق كل مواطن ترى فيه خميرة عكننة، وهذا ما تثبته الوقائع الحية في كل القارات، وما أن يرحل ديكتاتوريون، إلا وفقدت الأوطان التوازن، وتظل تتخبط دهرا طويلا حتى تنجح في ملء "الفراغ" الذي يتركه الراحلون.
صار جوزيف فيساريونوفيتش، الذي اتخذ من ستالين اسما رسميا (والكلمة تعني الرجل الفولاذي) رئيسا لأكبر دولة في العالم هي الاتحاد السوفييتي من عام 1922 إلى عام 1953، وكرس نظاما باطشا باسم الحزب الشيوعي، ورغم أن من خلفوه انتقدوا أساليبه في الحكم، إلا أنهم كرسوا بدورهم سلطة الحزب الواحد، وبعد سبعين سنة من انفراد الحزب بالحكم جاء الحصاد هشيما، فانهار الحزب وانهارت معه الدولة وتفككت أوصالها، ونهضت على أنقاضها 15 دولة معظمها في حال عداء مع بعضها البعض، وإليك الغزو الروسي لأوكرانيا دليلا.
لا يعزى الاحتراب في البلدان التي تخلصت من حكم الفرد لكون المتحاربين أو بعضهم يريد عودة نموذج الحكم الفردي، بل لأن النظام الديكتاتوري طويل الأمد يؤدي إلى تشوهات في القيم والفكر والأخلاق والقانون، تجعل المجتمعات والأفراد يعانون من ضعف الحس السياسي، وأكثر ميلا للتشرذم وجنوحا نحو المناطقية والجهوية والطائفية.
ثم انظر حال العراق منذ عام 2003 عندما سقط نظام صدام حسين الذي كان يحكم باسم حزب البعث، فقد ظل الرجل هو رئيس الجمهورية، وهو "الحزب"، والقائد الأعلى للجيش من عام 1979 إلى عام 2003، وكان الرجل الثاني في الحكم شكلا والأول فعلا ما بين عام 1975 و1979، ورغم أن مقاليد الأمور في العراق آلت، إلى من كانوا يخاصمونه، إلا أن العيش دهرا طويلا في ظل حكم الفرد، خلق مرارات نشهد نتاجها يوميا، ممثلة في الاقتتال والاستقواء بالخارج، وصارت لأكراد العراق دولتهم التي يربطها ببغداد خيط واه، وما تبقى من جسم الدولة متنازع عليه بين السنة والشيعة.
وعندك سوريا التي تسلم أمور حكمها حافظ الأسد في عام 1971، وسلم الراية إلى ولده بشار في عام 2000، وسجل الأسرة الأسدية ملطخ بالدماء، وها هي البلاد تئن اليوم تحت وطأة الدبابات والمجنزرات وتهتز جنباتها والطائرات تجوس سماواتها وهي تقذف الحمم، وصارت سوريا عمليا مقسمة إلى كانتونات بعضها خاضع لجهات أتت من الخارج.
وسياد بري حكم الصومال لواحد وعشرين سنة (1969 ـ 1990)، وترك الحكم مكرها، وترك البلاد مقسمة إلى يوم الناس هذا إلى كيانات متناحرة، ومعمر القذافي كان حاكم ليبيا المطلق طوال إثنين وأربعين سنة، ولكن رحيله كان إيذانا بحقبة من الاقتتال الأهلي الدموي يتم فيها الاستقواء بالمرتزقة الأجانب، وحكم علي عبد الله صالح اليمن لـ 34 سنة (1978 ـ 2012)، وها هو اليمن أرض يباب تسقيها الدماء فلا تنبت فيها غير الفتن.
ولا يعزى الاحتراب في البلدان التي تخلصت من حكم الفرد لكون المتحاربين أو بعضهم يريد عودة نموذج الحكم الفردي، بل لأن النظام الديكتاتوري طويل الأمد يؤدي إلى تشوهات في القيم والفكر والأخلاق والقانون، تجعل المجتمعات والأفراد يعانون من ضعف الحس السياسي، وأكثر ميلا للتشرذم وجنوحا نحو المناطقية والجهوية والطائفية.
بل إن سقوط الأنظمة الديكتاتورية لا يقود في جميع الأحوال إلى قيام نقيضها من الأنظمة، فقد سقط في نيسان (إبريل) من عام 2019 من الناحية الشكلية حكم حزب المؤتمر الوطني ممثلا في "الرئيس" عمر البشير في السودان والذي دام 30 سنة، ورغم أن السقوط كان نتيجة ثورة شعبية، إلا أن من بيده أمور الحكم في سودان اليوم (عبد الفتاح البرهان) يمارس القتل بصورة شبه يومية بحق من صنعوا تلك الثورة، كي يبقى هو في سدة الحكم، ولا يعنيه كثير شيء أن أطراف البلاد صارت مسارح للمعارك القبلية التي قد تشعل فتائل الحروب الأهلية في كل الاتجاهات.
عمل نظام عمر البشير بكفاءة لفصل جنوب السودان عن جسم البلد وكان له ما أراد، ثم أشعلها حربا أهلية في غرب البلاد، وبالتحديد في إقليم دارفور، ولكن ما هو أخطر من كل ذلك أنه ظل يغرس بذور الفتن والإحن، بإحياء النعرات القبلية ويحتضن مشعوذين يزعمون التصوف ويوحي لهم بأنهم "قادة الرأي العام"، وبموازاة ذلك أطلق العنان لمناصريه فخربوا ونهبوا المؤسسات العامة، وأوصلوا البلاد إلى حافة الهاوية.
ثم آلت الأمور مؤخرا إلى عبد الفتاح البرهان، والذي لا يملك معشار ما كان عمر البشير يملكه من سند أو دهاء أو ذكاء، فإذا به ـ مستعينا بمليشيا مساعده حميدتي، القادم من سوق الحمير والبعير إلى قصر مكسو بالدمقس والحرير ـ يدفعون السودان إلى أعماق الهاوية، فالبرهان وكبار الجنرالات الذين يناصرونه أبناء نظام ديكتاتوري لم يعرفوا غيره نموذجا، والديكتاتورية لا تسمح أصلا بنشوء قيادات سياسية ومجتمعية واعية خارج مظلتها، والقوى الواعية في السودان على ضعفها البادي لا تناصر البرهان والطغمة العسكرية، ولهذا فإن البرهان يراهن فقط على سند زعماء القبائل والعشائر مع ما يعنيه ذلك من نسفٍ للوحدة الوطنية.
والشاهد: شأنه شأن كل ربائب الأنظمة الديكتاتورية، فإن البرهان وساعده الأيمن ولد حمدان (حميدتي)، سيجعلون السودان في خبر كان، لأن ضعف الحس الوطني وقصر النظر السياسي عندهما يجعل منهما قوة ذات قدرات تدميرية هائلة، وكل القرائن المادية والظرفية تقول إنهما لن يكتفيا بحشر البلاد في نفق مظلم بل بسد ذلك النفق في الاتجاهين فتنعدم "المخارج"، ما لم يتم التعجيل بإخراجهما من قصر الحكم.
يعارضون البرهان ويخدمون غاياته
عن الحوار الجنوبي وغيرة رجال صالح على الدولة اليمنية
قراءة في خرائط النفوذ والتحالفات في المنطقة العربية (1)