نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا استعرضت
خلاله الواقع الاقتصادي في مصر، مشيرة إلى أن البلاد التي تعتمد بكثافة على
البضائع المستوردة وعلى الاقتراض الخارجي، تعرضت لضربات شديدة بسبب الأعطال
المتعاقبة في التجارة الدولية تحت وطأة الجائحة والحرب الروسية ضد أوكرانيا.
وأشارت إلى أن الحكومة المصرية فرضت المزيد من أحكام
الاستيراد القاسية، وخفض قيمة العملة المحلية ورفع معدلات الفائدة، كما أنها اتخذت
خطوات لخصخصة أو إغلاق المشاريع المملوكة للدولة، وهو مطلب رئيسي من قبل
المستثمرين والدائنين الدوليين الذين يقولون إن دور الحكومة المتضخم في الاقتصاد
يقف حجر عثرة في طريق الاستثمار من قبل القطاع الخاص.
وفي ما يأتي النص الكامل لتقرير "نيويورك تايمز":
عندما تمت هذا الشهر تصفية المصنع الحكومي الذي عمل فيه
هشام العطار منذ خمسة عشر عاماً انتابه شعور بأن ذلك ربما كان مرتبطاً بالضغط
الدولي على الحكومة المصرية لتقليص دورها في الاقتصاد في خضم كساد حاد.
كان السيد العطار، البالغ من العمر 39 عاماً، يعمل
مشرفاً في المصنع، مصنع الكوك والاقسام الكيماوية، والذي كان يحول الفحم إلى وقود
يسمى الكوك ويستخدم في إنتاج الحديد والفولاذ. أما الآن، ومع ازدياد تكاليف نفقاته
اليومية، يقول إنه بات يخشى من أنه لن يتمكن من إيجاد وظيفة أخرى بالقرب من سكنه
في مدينة الصف، على بعد ساعتين إلى الجنوب من العاصمة المصرية.
ويقول: "لا أدري ماذا سأفعل. لدي أربعة أطفال، ونحن
متعودون على مستوى معين من المعيشة. سيتوجب علي أن أغير ذلك."
تعرضت مصر، التي تعتمد بكثافة على البضائع المستوردة
وعلى الاقتراض الخارجي، لضربات شديدة بسبب الأعطال المتعاقبة في التجارة الدولية
تحت وطأة الجائحة والحرب الروسية ضد أوكرانيا، حيث ترجم خروج أموال الاستثمار
الخارجية وانهيار السياحة والارتفاع الحاد في أسعار السلع إلى نقص في العملات
الخارجية.
تمثل رد الحكومة على ذلك بفرض المزيد من أحكام الاستيراد
القاسية، وخفض قيمة العملة المحلية ورفع معدلات الفائدة. كما اتخذت خطوات لخصخصة
أو إغلاق المشاريع المملوكة للدولة، وهو مطلب رئيسي من قبل المستثمرين والدائنين
الدوليين الذين يقولون إن دور الحكومة المتضخم في الاقتصاد يقف حجر عثرة في طريق
الاستثمار من قبل القطاع الخاص.
ولكن في نفس الوقت، نجحت مصر في تأمين ما يزيد على الـ22
مليار دولار هذا العام على شكل تعهدات بالاستثمار من حلفائها في دول الخليج الذين
باتوا يحذرون من رؤية واحد من الأعمدة في العالم العربي على شفا الانهيار بعد عقد
من الاضطراب الذي بدأ بالانتفاضة التي اندلعت في البلاد في عام 2011.
شعر المستهلكون مباشرة بأثر رد الحكومة على الأزمة،
وخاصة الطبقة المتوسطة في مصر، والتي تآكلت تحت وطأة الشح المستمر في فرص العمل،
وتراجع الدعم على السلع والخدمات، والإنفاق الضئيل على الصحة والتعليم، ونظام
الضريبة التنازلي الذي تسخر موارده إلى حد ليس بالقليل في تمويل مشاريع البنية
التحتية المهووسة بالفخامة والأبهة.
تشترط أحكام الاستيراد التي فرضت في مطلع هذا العام أن
تقوم الشركات بدفع ثمن البضائع مقدماً من خلال النظام البنكي الوطني، فنجم عن ذلك
تكدس البضائع في الموانئ وبالتالي شح في توفرها في الأسواق. إلا أن الحكومة بادرت
منذ ذلك الحين باتخاذ خطوات لحل المشاكل الناجمة عن ذلك.
وفي شهر مارس/ آذار، خفض البنك المركزي قيمة العملة
بنسبة 14 بالمائة مما أدى إلى ارتفاع حاد في الأسعار، بينما بقيت الأجور على
حالها.
تقول منى حسني، وهي من سكان مدينة القاهرة: "يجب
علينا دفع أسعار أوروبية ولكن برواتب مصرية. ورواتبنا ليست مثل الرواتب
الأوروبية."
تعمل الآنسة منى حسنى في جانب من القاهرة وتدرس في الجانب
الآخر. ومع ارتفاع الأسعار، لا يمكنها الانتقال من مسكن العائلة الكائن في إحدى
ضواحي حلوان. ولذلك فهي تقضي ثلاث ساعات يومياً في قيادة سيارتها من طراز نيسان
2011 متنقلة بين سكنها والمدرسة والعمل.
ومن غير الوارد بتاتاً اقتناء سيارة جديدة.
تحاط الشوارع التي تعبر من خلالها بالمباني الجديدة
وتنتشر على جنباتها لوحات إعلانية كبيرة لعقارات فاخرة، وذلك بالرغم من أن معظم
البلد مازال غارقاً في الفقر.
شهد عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي في السنوات الأخيرة
ازدهاراً ضخماً في الإنشاءات، واقتراضاً من الخارج لتمويل التمدد المستمر بشدة في
مدينة القاهرة. بل تقوم الحكومة حالياً بإنشاء عاصمة جديدة في الصحراء، على مسافة
ليست بعيدة من العاصمة الحالية، بتكلفة قد تصل إلى 59 مليار دولار.
يقول سامر عطا الله، أستاذ الاقتصاد في الجامعة
الأمريكية في القاهرة، إن البلد تكبد ديوناً ضخمة – والتي تزداد تكلفتها يوماً بعد
يوم بسبب ارتفاع معدلات الفائدة – بدون الاستثمار في الأمور التي من شأنها أن تولد
المزيد من الصادرات، والمزيد من النمو الاقتصادي المستدام أو الإيرادات الحكومية
الثابتة.
ويضيف: "لم يكن ثمة مفر من أن يهيأ الاقتصاد للدخول
في أزمة."
تجري الحكومة محادثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على
قرض، ويقدر خبراء الاقتصاد بأن مصر قد تحتاج لما يزيد عن 15 مليار دولار خلال
السنوات الثلاث القادمة، مع أن الحكومة تقول إنها ستسعى للحصول على حزمة أصغر.
ويتوقع أن تقوم مصر بإجراء تخفيض إضافي لقيمة العملة في القريب العاجل.
يتوجب على الحكومة موازنة مطالب المستثمرين – الذين من
يمكن لأموالهم أن تخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية – مع مخاطر تطبيق إجراءات من
شأنها أن تسبب المزيد من الألم للمواطنين.
ولقد حث المقرضون الدوليون مصر على خصخصة المزيد من
اقتصادها كوسيلة لتحقيق نمو اقتصادي أكثر استدامة، وذلك أن جل الاقتصاد مازال منذ
أمد بعيد تحت سيطرة الدولة من خلال شركات مملوكة للحكومة وفي حالة من الاحتضار.
في حالة مصنع النصر، حيث عمل السيد العطار لما يقرب من
خمسة عشر عاماً، تقول الحكومة إنها تكبدت خسارة تصل إلى 1.5 مليون دولار خلال
العام الماضي وأنها لا تملك إمكانية تحديث أو تحسين وضعه المالي. وبناء على تقارير
إخبارية ووثائق حكومية، فإن المصنع، الذي بدأ في الإنتاج في عام 1964، يبث قدراً
كبيراً من التلوث.
يمثل السيد العطار حالياً النقابة التي تفاوض للحصول على
تعويضات للعمال، ولكن أياً كانت الصفقة التي سيتم التوصل إليها، فمن المؤكد أن
التعويضات لن تكفي لسداد الاحتياجات في ضوء ما تشهده البلاد من ارتفاع للأسعار
وتخفيض لقيمة العملة.
تقطع سيطرة العسكر على تشكيلة واسعة من الأعمال
والمشاريع التجارية الطريق على أي تنافس من قبل القطاع الخاص، ويشمل ذلك مختلف
الصناعات من الخرسانة إلى المعجنات، وذلك أن القطاع المملوك للعسكر يستفيد من
امتيازات لا تتوفر للآخرين مثل العمالة المجانية للمجندين المكلفين والإعفاءات
الضريبية والجمركية.
وكانت مصر قد وعدت من قبل بالخصخصة، ولكنها لم تف بما
تعهدت به. إلا أن الحكومة، في ضوء تراجع الاقتصاد بشكل كبير هذا العام، أبدت
استعداداً من جديد للبدء في بيع أو إغلاق العديد من الشركات المملوكة للدولة.
والآن، يجبر الناس في كافة أرجاء القاهرة، ومن كل مشارب
الحياة، على تعديل نظام حياتهم اليومي للتكيف مع الضغوط الاقتصادية.
في مرآب لتصليح السيارات في أحد الأحياء، يقول اثنان من
المدراء إن تكلفة قطع الغيار التي يحتاجون إليها من أوروبا ارتفعت بشكل حاد وأنهما
يفقدان الزبائن بسبب ارتفاع الأسعار، وأضافا أن حجم العمل غدا نصف ما كان عليه قبل
الجائحة.
يقول المدير العام مصطفى الجمال: "كلنا نعاني، وأثر
ذلك واضح على الجميع."
ورغم أنهما لم يفصلا أحداً من العاملين إلا أن الرواتب
مازالت تراوح مكانها.
ويقول السيد الجمال إنه حاول حماية أطفاله الأربعة من تداعيات
الهبوط الاقتصادي، ولكنه يقول إنه فوجئ حينما ذهب ليشتري لهم حقائب من أجل العام
الدراسي الجديد واضطر لدفع ضعف ما كان يدفع في الماضي.
أما زميله الذي يدير ورشة التصليح، واسمه محمد فاروق
ويبلغ من العمر 33 عاماً، فيقول إنه نقل ابنه الذي يبلغ السادسة من العمر إلى
مدرسة يمكنه تحمل أقساطها بالقرب من منزله في مدينة نصر، أحد أحياء القاهرة
الأخرى.
في هذه الأثناء حاولت الحكومة زيادة الإيرادات من خلال
رفع الرسوم التي تتقاضها على الخدمات.
يدير عاصم مأمون، البالغ من العمر 39 عاماً، شركة خاصة
اسمها آدمزاد، يعمل فيها 14 موظفاً، وتتخصص في جمع البيانات من لوحات الإعلانات
لبيعها للشركات التي ترغب في تحسين حملاتها الدعائية. يقول عاصم إن التراجع
الاقتصادي وتخفيض سعر العملة عقدا خططه للتوسع خارج مصر.
كانت الحكومة تسبب الصداع للعاملين، كما يقول السيد
مأمون، بما في ذلك فرض منصة جديدة لوزارة المالية يجب استخدامها لجميع المعاملات
التجارية. والغاية من ذلك هي ضمان أن تطلع الحكومة على كل ما يتم إجراؤه من
تعاملات.
ويضيف أنه تم كذلك تغيير بعض الممارسات التي تتيح
الإمساك عن دفع الضرائب، الأمر الذي يقلص ما في حوزته من نقد. ولئن كان يتفهم أن
الحكومة تهدف إلى زيادة الإيرادات، إلا أن هذا الأسلوب من وجهة نظره يشكل عائقاً
أمام النشاط التجاري.
ويقول: "إنهم بذلك يخنقون المؤسسات التجارية
الصغيرة."
اقرأ أيضا: كيف سيتأثر فلاحو مصر بارتفاع أسعار غاز مصانع الأسمدة؟
يقول جمال عثمان، البالغ من العمر 59 عاماً والذي يعمل
في مخزن في مدينة طنطا التي تقع على مسافة ساعتين إلى الشمال من القاهرة، إنه بات
يدفع مبلغاً أكبر كرسوم للخدمات الأساسية، مثل تجديد بطاقة الهوية. ويقول إنه بدأ
يقلص استهلاكه للحوم، بحيث يتناولها مرة كل أسبوعين فقط، ومع ذلك لم يتمكن من
توفير أي نقود كما كان يفعل من قبل.
ويضيف: "بإمكانك أن تحس ذلك في كل ما تعمله، من
اللحظة التي تضع فيها قدمك على الطريق إلى اللحظة التي تأوي فيها إلى فراشك
لتنام."
ومع ذلك ثمة من يرى منحة في هذه المحنة.
يعمل محمد إيهاب مديراً للتسويق لدى شركة سيارات لديها
وكالة جيتور، وهي ماركة صينية دخلت السوق المصرية في 2020. كانت المبيعات في
ازدهار العام الماضي، إلا أن أحكام الاستيراد الجديدة صعبت الأمور.
توقفت الشركة عن قبول طلبات قبل شهور وتركز الآن على
توسيع مراكز الصيانة والخدمات.
يقول السيد إيهاب إنه مازال يوجد طلب على سيارة العائلة
العملية، حتى بعد أن شهدت الأسعار ارتفاعاً حاداً بسبب تخفيض قيمة العملة، حيث
ارتفع سعر السيارة الأقل ثمناً لدى الشركة من 18 ألف دولار إلى 26 ألف دولار، وذلك
لأن المستوردين يتحتم عليه دفع ثمن السيارة للصين بالدولار.
إلا أنه يرجو أن تدفع الضائقة الحكومة نحو منح حوافز
لشركات السيارات حتى تجمع منتجاتها داخل مصر، وهو ما سيخلق وظائف وفي نفس الوقت
يقلل من تكلفة إنتاج السيارة.
ويقول: "إنها أوقات صعبة، ولكني أعتقد أنها جزء من
حكاية أكبر وأفضل."