ما انفك
قيس سعيد يصر على اتهام خصومه بالاحتكار والوقوف وراء
النقص الحاد بالمواد الأساسية من أجل تجييش الشارع ضده، حتى صار حديثه عن الاحتكار
مملا وباعثا على الضحك، بينما يرى خصومه أن شح السيولة ونقص العملة الصعبة سبب
أزمة توريد السلع. وفي
آخر عملية تهريج للمنقلب أن يحمّل بعض المواد المستوردة مسؤولية
الانهيار
الاقتصادي، كطعام الحيوانات الأليفة ومواد التجميل وغيرها من الكماليات. وهو بهذا
يحاول تأليب الفقراء ضد الأغنياء، وهم الجمهور الذي سانده في انقلابه، لكن قطاعا
كبيرا من هذا الجمهور، لم يعد يثق به ولا بتصريحاته التي باتت محط نقد وسخرية لاذعة،
بل إن التظاهرات الليلة التي انطلقت الأسبوع الفائت كانت في المناطق الفقيرة التي
أيدت إجراءاته، ثم سرعان ما اكتشفت أكاذيبه وألاعيبه وانتقلت إلى صفوف الناقمين
على سياساته المخادعة.
يحدث ذلك في حين تقدم مؤسسة الرئاسة عروضا لشراء لحوم بقيمة
مليون و141 ألف دينار (نحو 360 ألف دولار)، وهو الذي يدعو المواطنين للتقشف وشد
الأحزمة، بينما هم يمارسون ما هو أكثر من التقشف، فالتقشف يكون لمن يملك ويزهد، لا
لمن لا يملك شيئا، وأكبر همه أن يحصل على كيلو سكر أو لتر من زيت الطعام. وقد
أظهرت الصور والفيديوهات تدافع الناس وصراخ بعض النسوة لالتقاط كيلو سكر من أحد
المتاجر.
لقد وصل الوجع بالناس إلى الصفحة الرسمية للرئاسة بجرأة
استثنائية؛ حيث كتب أحد المعلقين متحدثا عن عجز الرئيس عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية
المتفاقمة، وطالبه بإعادة السلطة للشعب لينتخب القادرين على الخروج بتونس من
مأزقها. ووصل الاحتجاج إلى
النقابات الأمنية التي
اضطرت للقيام بتظاهرة في مدينة صفاقس؛ إثر اعتقال ثمانية من الأجهزة الأمنية، بسبب
تصريحاتهم الجريئة ولرفضهم إدماج النقابات الأمنية في نقابة واحدة؛ ليسهل على
المنقلب السيطرة عليها. وهو مشهد جديد يشي باحتمالات قد تكون عواقبها أبعد من
مخيال الزعيم الأوحد وحامي الحمى!!
وصل الوجع بالناس إلى الصفحة الرسمية للرئاسة بجرأة استثنائية؛ حيث كتب أحد المعلقين متحدثا عن عجز الرئيس عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وطالبه بإعادة السلطة للشعب لينتخب القادرين على الخروج بتونس من مأزقها
وفي حين تجري المياه من تحت رجليه، وبات قاب خوفين أو أدنى من
خط النهاية، يبدو أن المنقلب يحلم بأن يكون تيودورو غينيا الاستوائية الثاني، الذي
أعلن حزبه الحاكم يوم الجمعة الفائت أن الرئيس سيرشح نفسه مرة أخرى لولاية سادسة
في الانتخابات، التي ستُجرى في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. ذلك أن المنقلب يظن أنه
قادر بقوة الجيش والشرطة أن يبقى في سدة الحكم، مهما اشتدت وتيرة المعارضة وتعاظمت
قوتها، ناسيا أن الجيوش مهما كانت مخلصة للحاكم، فإنها في لحظة الحقيقة لن تغض
الطرف عن الحراك الشعبي. والأمثلة على ذلك كثيرة، وإن شذت بعض الحالات في ظروف
استثنائية تحكمها مصالح وتحالفات خارجية، كما حدث في سوريا واليمن.
وفي الأثناء، أصدرت
المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب
حكما ضد إجراءات الرئيس
التونسي قيس سعيد، وطالبته بالعودة للديمقراطية الدستورية
وإلغاء عدة مراسيم، وطالبت المحكمة بإلغاء الأمر الرئاسي (117) الصادر في 22 أيلول/
سبتمبر 2021، والمراسيم الرئاسية أرقام: (69) الذي أعفى رئيس الحكومة وزير الدفاع
ووزيرة العدل بالنيابة، و(80) المتعلق باختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن
النواب، و(109) الذي مدد إجراءات الأمر 80؛ التي صدرت في 26 و29 تموز/ يوليو
2021، و24 آب/ أغسطس 2022، كما طالبت المحكمة بالعودة إلى
الديمقراطية الدستورية
من تاريخ تبليغ هذا الحكم.
وتعد هذه صفعة إقليمية ودولية قوية لسعيد، وخصوصا فيما يتعلق بالجانب
الشخصي للمنقلب الذي يرى بعيني ارتجافه تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية، وتحول أعداد كبيرة من مناصريه عن موالاته بعد أن أحسوا بمخادعته لهم،
ولعبه على عقولهم، لا سيما في ظل النشاط السياسي والإعلامي الذي ما انفكت المعارضة
ومواقع التواصل الاجتماعي تقوم به، فاضحة إجراءاته الأحادية؛ فهو رجل لا يرتجى
منها خير، وهو الذي يعاني من الأنانية والتطلعات الذاتية وارتجاف الشخصية وخواء
الروح، إضافة إلى انعدام ثقافة السياسية والمجتمع. إن هذه الشخصية المتبلدة وفاقدة
الإحساس، تفاقم
الأزمات ولا تقدم فكرة سوية للخروج منها؛ فما يطرحه من حلول يبعث
على السخرية وضحك الكوميديا السوداء.
صفعة إقليمية ودولية قوية لسعيد، وخصوصا فيما يتعلق بالجانب الشخصي للمنقلب الذي يرى بعيني ارتجافه تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتحول أعداد كبيرة من مناصريه عن موالاته بعد أن أحسوا بمخادعته لهم، ولعبه على عقولهم
ومن نافلة القول بأن
الاحتجاجات التي بدأت في المناطق الشعبية، تشي بقادم حتمي، قوامه مزيد من الاحتجاجات، التي ستؤدي إلى ثورة ستخلع المنقلب
وتلقيه في مزبلة التاريخ في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي
تتفاقم يوما بعد يوم؛ فلكل فعل رد فعل، والشعب التونسي صانع أول ثورة في العصر
الراهن، قادر على إعادة التجربة، ولا أتصور أن المؤسسة العسكرية التي رفضت الأوامر
بإطلاق النار على المتظاهرين في ثورة 2011، ستنفذ الأوامر الرئاسية بقمع التحركات
الشعبية، فثقة الشعب بجيشه الذي وقف إلى جانب الانقلاب من باب تنفيذ أوامر القائد
الأعلى، وليس من باب الانحياز للرئيس، يعرفها قادة الجيش جيدا، وأغلب الظن أنهم لن
يخذلوا الشعب من أجل
رئيس فاشل، غير قادر على إدارة البلاد وحل المشكلات المستعصية.
لا يراودني أدنى شك في أن أيام المنقلب باتت قصيرة، وأن زواله
تحصيل حاصل، وهنا تحضرني حكمة منسوبة لعلي رضي الله عنه -ولا أظنه قائلها-: "إذا
رأيت الظالم مستمرا في ظلمه، فاعلم أن نهايته محتومة، وإذا رأيت المظلوم مستمرا في مقاومته، فاعلم أن انتصاره محتوم". ومعروف عن الشعب التونسي -وخصوصا فقراءه-، أنهم أشداء في مقارعة الظلم والقمع. ولا بد أن أقول هنا؛ إن غدا لناظره قريب؛ فقد
فاض الكأس، وبلغ السيل الزبى.