مثل الانقلاب العسكري الأخير في بوركينا فاسو، "القشة التي قد تقصم ظهر المستعمر السابق" فرنسا في منطقة غرب أفريقيا، ليحل محلها لاعب جديد بالساحل الأفريقي، سبق له افتكاك باماكو من "أنياب" باريس ليحتضنها الدب الروسي.
وأعلنت مجموعة من العسكريين يقودها نقيب بالجيش البوركينابي، في 30 أيلول/ سبتمبر الماضي، عبر التلفزيون الرسمي إقالة الرئيس المؤقت الجنرال بول-هنري سانداوغو داميبا، وحل الحكومة والمجلس التشريعي ووقف العمل بالدستور، وحظر التجول وغلق الحدود.
وتزامن هذا التطور مع تبادل لإطلاق النار في المنطقة التي تضم مقر الرئاسة في العاصمة واغادوغو، وإحراق مقر السفارة الفرنسية في البلاد.
وهذا الوضع يهدد بتخلي الانقلابيين الجدد عن تسليم السلطة للمدنيين في مهلة أقصاها 1 تموز/ يوليو 2024، كما التزم بذلك زعيم الانقلاب الأول المخلوع داميبا، أمام الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس).
وقال رئيس مدير المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، محمد صالح، في تصريح خاص لـ"عربي21" إن "الانقلاب الأخير يمثل المراحل الأخيرة في الوجود الفرنسي في بوركينا فاسو"، مشيرا إلى تقارير تفيد بأن "بول هنري الذي أطيح به مؤخرا من قيادة الحكومة المؤقتة كان محتميا بقاعدة فرنسية".
وهذا هو الانقلاب العسكري التاسع في تاريخ بوركينا فاسو منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960.
بوركينا.. إرث الثائر سانكارا
وتقع بوركينا فاسو، ضمن دول الصحراء الكبرى في أفريقيا حيث تحيطها ستة دول هي مالي من الشمال، والنيجر من الشرق، وبنين من الجنوب الشرقي، وتوغو وغانا من الجنوب وساحل العاج من الجنوب الغربي.
ولاسمها، إرث تحرري من الاستعمار الفرنسي، فعندما وصل الرئيس الأسبق، توماس سانكارا والملقب "تشي غيفارا أفريقيا" إلى السلطة إثر انقلاب عسكري عام 1983، قام بتغيير اسم بلاده التي كان يطلق عليها المستعمرون الفرنسيون في ذلك الوقت "فولتا العليا"، لتصبح "بوركينا فاسو" التي تعني "بلاد الرجال النزهاء".
والعام 1987، اغتيل سانكارا أو كما يعرف بـ"أبي ثورة بوركينا فاسو"، وكان عمره حينها 37 عاما، في انقلاب آخر أوصل رفيقه في السلاح بليز كومباوري إلى الحكم مع وجود تكهنات بتورط دول أجنبية أخرى منها فرنسا.
مسيرة حافلة بالانقلابات
في 17 أيلول/ سبتمبر العام 2015 وبعد أقل من سنة على سقوط بليز كومباوري الذي أطاحت به انتفاضة شعبية، أطيح بالرئيس ميشال كافاندو في انقلاب قادته وحدة من النخبة في الجيش.
وبعد أسبوع من ذلك الانقلاب، أعيد الرئيس كافاندو إلى مهامه إثر اتفاق بين جنود موالين وانقلابيين.
في 24 كانون الثاني/ يناير العام 2022، أعلن عسكريون على التلفزيون الوطني أنهم استولوا على السلطة وتعهدوا بـ"العودة إلى نظام دستوري" في "مهلة معقولة".
وترأس البلاد قائد الانقلاب الذي يعرف بموالاته لفرنسا، الجنرال بول-هنري سانداوغو داميبا.
في 30 أيلول/ سبتمبر الماضي، أطاح النقيب إبراهيم تراوري بالجنرال داميبا الذي عينه خلفا له في آذار/ مارس الماضي، رئيسا لفوج المدفعية في منطقة كايا، وهي تابعة للمنطقة العسكرية الأولى، وخامس أكبر مدينة في بوركينا فاسو، على بعد 100 كم من واغادوغو.
وذكرت تقارير إعلامية إن داميبا وضع سبعة شروط للتنحي، بما في ذلك ضمان أمنه، والاتفاق على مواصلة جهود المصالحة الوطنية والاحترام المستمر لضمان العودة إلى الحكم المدني في غضون عامين.
رفض أفريقي لفرنسا
وفي السياق، عبّر قادة الانقلاب، الأحد الماضي، عن رغبتهم في التوجه "نحو شركاء آخرين" غير فرنسا، لكن النقيب تراوري أظهر حذرا غداة وفقا لمقابلة مع راديو فرنسا الدولية.
وحول الدور الفرنسي في القارة الأفريقية، أكد رئيس مدير المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات وجود "تململ واضح من قبل شعوب المنطقة فقد خرجت مظاهرات شعبية كبيرة في بداية هذه السنة تندد بالوجود الفرنسي".
وتابع بالقول إن "فرنسا خسرت نفوذها في أفريقيا الوسطى لتحل محلها روسيا، كما تتنامت القوى السياسية الرافضة لفرنسا في دول غرب أفريقيا معقل النفوذ الفرنسي في القارة وبالتالي فإننا نستطيع القول إن منطقة الساحل تشهد تغيرات ليست في صالح فرنسا".
وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، اتهم رئيس وزراء مالي، شوغيل مايغا، خلال جلسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فرنسا بالتخلي عن بلاده في منتصف الطريق بعد أن بدأ ماكرون بتقليص عدد قواته في مالي.
وفي وقت سابق، أرجع المحلل السياسي الإيفواري، سيلفين نغويسان، في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" ، هذا التململ الأفريقي إلى الحقبة الاستعمارية، قائلا: "كثيرون منا عاصر آباؤهم زمن الاستعمار ومراراته".
وذكر تقرير لقناة فرنسا24 الرسمية، أن موسكو تواصل تعزيز نفوذها في بوركينا فاسو على حساب فرنسا، عبر إعادة سيناريو مالي.
وأشار التقرير إلى رفع متظاهرين شعارات مناهضة لباريس على غرار ما حصل في مالي عام 2020 قبل طرد الجيش الفرنسي بعد عامين منها، ودخول باماكو في شراكات قوية مع روسيا عبر مجموعة فاغنر.
وفي هذا الصدد، قال مدير "أفرو بوليسي" محمد صالح: "توقع كثير من المحللين والخبراء أن بوركينا فاسو ستسير في طريق مالي من حيث تغيير وجهتها نحو موسكو، يعضده التأييد الظاهر لروسيا في الشارع البوركيني وحملهم للأعلام الروسية وهاجمتهم لسفارتها ومركزها الثقافي والتنديد الشديد بفرنسا وتحميلها مسؤولية الأوضاع الأمنية المتردية".
لكنه استطرد قائلا: "لكن لا تتوفر حتى الآن معلومات موثوقة تثبت تورط الروس في ما جرى في بوركينا فاسو".
يد "سفلى" لفرنسا بأفريقيا
وفي السياق، اعتبرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية إنه المجلس العسكري الحاكم في مالي، اقترب من فاغنر لتأمين سلطته، بينما يتم في النيجر وتشاد استغلال المشاعر المعادية للفرنسيين من قبل المعارضة ويتم التلاعب بها من قبل شبكات النفوذ الموالية لروسيا.
وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى تزايد الاستياء بشكل سريع في القارة، مضيفة أن مشاركة فاغنر في أماكن أخرى من أفريقيا في الأشهر المقبلة، تظل مرهونة بسياق الحرب في أوكرانيا، حيث لا يملك المرتزقة الروس الوسائل لزيادة انتشارهم.
وفي وقت سابق، وأوضح الخبير الروسي أندريه أوليسكي لـ"عربي21" أن روسيا تحافظ على سياستها في أفريقيا بما فيها ليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وغيرها، وفق تعبيره.
وأضاف: "النهج السياسي الروسي سيبقى كما كان سابقا موجها إلى التعاون مع البلدان الأفريقية وتقديم يد المساعدة والاستفادة منهم وهذا نهج سياسي باق ومتواصل".
ومن جانبه أشار صالح في تصريحه الخاص لـ"عربي21" إلى أنه "إذا لم تعمل فرنسا على معالجة وتحسين سلوكها وصورتها في أفريقيا فإن نفوذها سيشهد أفولا محتوما بلا شك".
وأضاف: "الشعوب سئمت من الاستغلال لمقدراتها دون أن تقدم فرنسا شيئا بالمقابل هذا إلى جانب دخول منافسين يقدمون المساعدة والعون في أول طلب ودون تأخير".
كيف تحصّن نفسك حال اندلاع حرب نووية؟.. إجراءات عليك فعلها
ما أضرار إشعاعات النووي على البشر.. وكيف يمكن تجنبها؟
"طبول حرب نووية".. كيف سيكون شكل العالم لو حدثت؟