الكتاب: كتابات ومذكرات المناضل يوسف الرويسي السياسية مع وثائق جديدة تنشر لأول مرَّة
الكاتب: د. عبد الجليل التميمي
الناشر: مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس
(265 صفحة من القطع الكبير)
الرويسي ومكتب المغرب العربي في دمشق
في سنة 1944، تولى الرويسي إدارة مكتب المغرب العربي ببرلين وسة تحرير جريدة المغرب العربي التي كانت تصدر باللغتين العربية والألمانية، وفي سنة 1946 حكمت عليه المحكمة العسكرية الفرنسية بتونس بالإعدام غيابياً والتجأ أثرها إلى سورية التي أقام بها وأسس مكتب المغرب العربي للتعريف بقضية تونس وبقية قضايا المغرب العربي ودعم نضالها في الخارج. وقد وجد من الحكومة السورية وخاصة من الشعب والمثقفين الوريين، على امتداد الفترة الطويلة التي أقامها بدمشق، كل تفهم ومساعدة لأداء مهمته والتعريف بالقضايا المغربية على جميع المستويات.
لكن مغامرة يوسف الرويسي السياسية والنضالية الثالثة كانت ولا شك على مستوى الساحة المشرقية والشامية بصفة خاصة، وفي ثلاث مقالات نُشِرَتْ له بقلمه في المجلة التاريخية المغاربية، قصَّ علينا المناضل يوسف الرويسي مغامرة وصوله إلى بلاد الشام وإنشائه مكتب المغرب العربي بدمشق. وقد انطلق منها المناضل يوسف في عملية تبشيرية بقضايا المغرب العربي على أوسع نطاق، لم تعرفه الساحة المشرقية برمتها، فقد تقابل مع رئيس الجمهورية السورية والوزراء ورجال السياسة والمجتمع العلمي وعمادة شؤون الجامعة السورية ومكاتب الصحافة والنوادي الثقافية، معرفاً بنضال المغرب العربي، عن طريق إلقاء المحاضرات وإقامة الندوات ليس فقط في بلاد الشام، بل أيضاً في لبنان وفلسطين والأردن والعراق والكويت. وكان يؤمن إيماناً مطلقاً بالثورة الثقافية، ثورة الفكر والمعرفة. ولهذا حرص على جلب الطلاب المغاربيين وتسجليهم بالجامعة السورية في كل التخصصات الممكنة وعلى الخصوص منها العسكرية.
وقد وفّق في تسجيل الآلاف من الطلاب المغاربيين في الجامعة السورية وحصولهم على منح دراسية من الدولة السورية. ومن عرف يوسف الرويسي في هذه المرحلة الدقيقة. من تاريخ الحركة الوطنية، يدرك تماماً مدى الدور السياسي المتألق والمشرف والنظيف الذي لعبه هذا المناضل دفاعاً عن عروبة وإسلام المغرب العربي ووحدة ترابه وحتمية استقلاله السياسي الكامل. وقد عبر عن فرحته وسعادته المطلقة عندما عاش لحظات انطلاقة الرصاصة الأولى لثورة الجزائر في اول نوفمبر 1954، لإيمانه العميق بوحدوية النضال المغاربي الشامل.
وقد تفاعل هذا النشاط وازداد ليصبح مكتب المغرب العربي بدمشق خلية متحركة للبيانات والاتصالات والمحاضرات واللقاءات والتصريحات وجمع الإعانات ونشر العديد من الكتيبات الصغيرة والتي كانت توزع بشكل واسع في الساحة السياسية الدمشقية وتناولت أهم قضايا الساعة المغاربية يومئذ. ناهيكم أن السفارة الفرنسية بدمشق كتبت تقول بأن الصحف السورية تنقل عن جريدة (Times) أخبار الكفاح المغاربي التي وصلتها من مكتب المغرب العربي بدمشق. وهذا ما يترجم عن فعالية نشاط مكتب المغربي العربي بدمشق على الصعيد، ليس فقط العربي، بل الدولي أيضاً. والواقع أن يوسف الرويسي قد وجد في الساحة الدمشقية، قوة دفع وطنية جديدة، سعد بها وسعدت به.
لقد عرف المرحوم المناضل يوسف الرويسي كيف يحسس المسؤولين السياسيين بسورية خاصة وبالمشرق عموماً، بقضايا المغرب العربي وهذا بفضل ما أوتي من خطابة وطلاقة لسان وإيمان لا يتزعزع بالأمة العربية وبمصير وحدتها مشرقاً ومغرباً، ولقد نظم العديد من الندوات واللقاءات والمحاضرات وعرف كل زعماء المشرق وارتبط بهم بعلاقات شخصية ساعدته على أن يصبح ليس فقط ممثل ولسان الحزب الحر الدستوري الجديد بل أيضاً ممثل ولسان المغرب العربي برمته، وحيث دافع عن قضاياه ووحدته، مكرساً كل نشاطه وتفكيره إلى تحقيق هذه الغاية النبيلة. وإذا كان اجتهاده السياسي المستقل قد دفعه إلى اتخاذ موقف من قضية الاستقلال الداخلي فإنه رفض رفضاً قاطعاً أن يساهم ويؤيد تصدع المجتمع التونسي وتغذية الانقسامات التي حدثت إثر الاستقلال وبقي وفياً لمبادئه التي أعلن عنها في كتاباته ومواقفه طوال فترة نضاله كلها.
يقول التميمي: "لقد حدثني شخصياً، صديق المرحوم، المحامي السوري الأستاذ منير عبد الله أثناء زيارتي الأخيرة لدمشق، عن طبيعة النشاط الوطني المكثف جداً، الذي قام به يوسف الرويسي، في مدة وجيزة، وهو الأمر الذي كان قد انتزع به إعجاب الدمشقيين والقادة والزعماء السياسيين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والحزبية وهذا لقوة إيمانه وصلابة مواقفه الوطنية ودماثة وسمو أخلاقه، وهو الأمر الذي جلب له احترام المجتمع الدمشقي برمته، ومنحه ثقته المطلقة باعتباره المرجع السياسي والثقافي الوحيد للجالية المغاربية لدى السلطات السورية دون منازع. وإن كان وثيقة صادرة عن مكتب المغرب العربي بدمشق، دون إمضاء يوسف الرويسي لها، تعد لاغية ولا قيمة لها ولا تؤخذ بالاعتبار في دوائر الدولة السورية الرسمية. كما أشرف المناضل يوسف الرويسي على مكتب الاتصال العربي وتولى الرئاسة الشرقية لرابطة طلاب المغرب العربي"(ص 21).
وقد حرص المناضل يوسف على تنسيق مواقف مكتبه بمكتب المغرب العربي بالقاهرة في أمهات القضايا الوطنية المغاربية، وقد حضر كل المؤتمرات المعقودة ومثل المغرب العربي في عدد من اللقاءات الدولية الأخرى. وقد التقى مع الكثير من القيادات والزعامات الفكرية والسياسية والثقافية المشرقية وارتبط وإياها برباط الأخوة والتعاون. بل إنه تفاعل مع كل تياراتها أخْذًا وعطاءً وهذا إلى درجة الإعجاب والتبني مع إيديولوجية الأحزاب التي كانت تؤمن بالوحدة العربية كهدف أسمى لكل نضالات الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج من أجل الاستقلال. ولعل هذا التوجه الفكري الملتزم، هو الذي أملى عليه بيانه الحاسم حقول موقفه من الاتفاقيات التونسية ـ الفرنسية للاستقلال والتي رفضها جملة وتفصيلاً، بل اعتبرها خيانة عظمى ومؤامرة استعمارية. وجب الوقوف ضدها ومحاربتها بكل الوسائل، لأنها في نظره أشنع من اتفاقية الحماية المفروضة على الباي سنة 1881.
خلاف الرويسي مع بورقيبة حول مضمون الاستقلال
وفي سنة 1947 شارك في مؤتمر المغرب العربي الذي انعقد بالقاهرة، وفي سنة 1948 انتخب عضواً بالديوان السياسي للحزب وتولى مسؤولية الإشراف على أفواج المجاهدين من أبناء المغرب العربي في حرب فلسطين، وفي سنة 1952 مثل تونس ضمن وفد الجامعة العربية في مؤتمر التضامن الاجتماعي الذي انعقد في دمشق بالتعاون بين الجامعة العربية ومنظمة اليونسكو، وانتخب في سنة 1955 مقرراً عاماً للمكتب الدائم لمؤتمر الخريجين العرب الذي انعقد بمدينة القدس، وفي سنة 1956 انتخب مع وفد جزائري لمقابلة جلالة الملك محمد الخامس في إسبانيا بخصوص إعانة الثورة الجزائرية ثم انتدب سنة 1957 للقيام بمهمة توفيقية بين الجزائريين والمغاربة على أثر الاشتباكات العسكرية التي وقعت بين البلدين بسبب الحدود، وقد سافر إلى سويسرا واتصل بالأطراف المعنية ووفق في مهمته، وخلال إقامته بالمشرق كان إلى جانب نشاطه في الدعاية لقضية تونس ودعم نضالها في الخارج يقوم بتوجيه طلاب المغرب العربي بالمشرق، وبالتعاون مع جبهة التحرير الجزائرية في دعم ثورة الجزائر وإعانتها، وبتاريخ 7 جويلية 1964 عاد إلى تونس وانتخب عضواً بمجلس النواب ليصبح بعد ذلك مستشاراً لرئيس الجمهورية الأستاذ الحبيب بورقيبة حتى وفاته.
إن دراسة تاريخ الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وعلاقاتهما الثنائية المتنافسة على زعامة البلاد السياسية قبل وبعد الاستقلال، تبين من هو الذي كان وراء تصدع وحدة المناضلين الدستوريين، وهذا خلافاً للموقف المبدأ الذي نادى به يوسف الرويسي.
لا يمكن فهم سر وإشكالية هذا الموقف وأبعاده الوطنية والمحلية، إلا إذا عرفنا طينة هذا الرجل وغيرته الوطنية المطلقة ووفاءه لرعيل الشهداء الذين سقطوا من أجل أن تنعم تونس باستقلال حقيقي وعلى جميع المستويات. إن مطلب الاستقلال مطلب أساسي، لا يمكن التساهل معه أو التخلي عنه، مهما كانت الحجج المقدمة لمبدأ خذ وطالب التي كان ينادي بها الزعيم السابق بورقيبة يومئذ.
إنَّ موقف يوسف الرويسي من اتفاقية الاستقلال يعتبر موقفاً واضحاً لا غبار عليه وفاء للمبادئ التي ناضل من أجلها لتحرير المغرب العربي برمته، وكان يرى أن التحام المعارك النضالية لبلدان المغرب كله، هو الكفيل وحده بتتويج مسيرة المغرب العربي بالوحدة والاستقلال.
إن إعلان بيان يوسف الرويسي الشخصي هذا، لم يكن لغايات أو طموح سياسي قيادي فهو أشرف وأنبل من ذلك. وقد وجد هذا البيان صداه لدى القاعدة المثقفة من الدستوريين ومن الزيتونيين المتنورين، وهذا خلافاً للموقف السياسي المعارض الذي تبناه الزعيم صالح يوسف ضد اتفاقية الاستقلال والتي كانت وراء تصدع البلاد إلى فريقين متحاربين وعرفت البلاد أشنع التصفيات الجسدية.
إن دراسة تاريخ الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وعلاقاتهما الثنائية المتنافسة على زعامة البلاد السياسية قبل وبعد الاستقلال، تبين من هو الذي كان وراء تصدع وحدة المناضلين الدستوريين، وهذا خلافاً للموقف المبدأ الذي نادى به يوسف الرويسي. ومع هذا فقد دفع المناضل يوسف الرويسي الثمن غاليًا، ذلك أنَّ الرئيس الحبيب بورقيبة لم يغفر له هذا الموقف المعارض.
إقرأ أيضا: يوسف الرويسي.. قاد تيار العروبة في الحزب الحر الدستوري بتونس
إقرأ أيضا: الجنوب التونسي ومسيرة الحركة الوطنية.. يوسف الرويسي نموذجا
يوسف الرويسي.. قاد تيار العروبة في الحزب الحر الدستوري بتونس
في الوصايا العشر ودورها في التقريب بين الأديان السماوية
عن السياسة والسلطة في الإسلام.. قراءة معاصرة