لو أتيحت لنا مستقبلا قراءة أحد كتب سلسلة الكتب التجارية الصادرة تحت عنوان» كيف»، كما في كيف تتعلم الإنكليزية في أسبوع أو تربح مليون دولار في شهر، هل سيكون لاختيار رئيس الجمهورية العراقي عبد اللطيف رشيد، أخيرا حظا في الاستئثار بعنوان «كيف تؤجل تنفيذ نتائج الانتخابات لمدة عام؟
« تشير كثرة التهاني التي تلقاها العراق بمناسبة اختيار رئيس للجمهورية وتكليفه رئيسا للوزراء، بعد مخاض عام من إعلان نتائج الانتخابات، إلى أن كتابا كهذا، كونه يستند على تجربة حقيقية متميزة، سيحقق نجاحا كبيرا، خاصة، في الدول التي تُفرض على شعوبها طبخة «الديمقراطية» والانتخابات ويتم تطبيقها من قبل أتباع محليين بإشراف «دولي».
في خلاصة الكتاب سيتوصل لاعبو الأدوار الرئيسية إلى التوافق فيما بينهم، حول بعض النقاط لعل أهمها وأكثرها وضوحا هو الاستغناء عن الشعب بمختلف الأساليب الممكنة والمجربة تاريخيا من الترويع إلى السجون إلى التهجير القسري أو التجاهل وتركه ضحية الجوع والعطش وانعدام الخدمات الصحية والتعليم. وسيصادف القارئ، لا محالة، أثناء تصفحه سطور التجربة العراقية المُنتهِكَة للمواطن فصولا مغموسة بالتجاهل الدولي المنهجي لحقوق الشعب، على الرغم من العزف المتواصل على طبول حقوق الإنسان والقوانين الدولية.
أما بقية الفصول فستحفل بالتهاني والتبريكات بنجاح الانتخابات أولا على الرغم من أن سنبة المشاركين فيها لم تزد عن 30 بالمئة، كما التهاني بتمكن البرلمان أخيرا، من تجميع أعضائه في المنطقة الخضراء، والتصويت مرتين لأن المرة الأولى قوطعت بسبب قصف المنطقة الخضراء، لانتخاب رئيس للجمهورية كلّف بدوره رئيسا للوزراء.
مما يُشكل واحدة من مفارقات الوضع العراقي إذ تم تكليف، ذات الشخص الذي رُشّح، قبل عام، وأثار ترشيحه تبادل الاتهامات واستقالة 73 من أعضاء البرلمان، من أتباع مقتدى الصدر، بالإضافة الى الاحتجاجات والاعتصامات والقصف والاعتقالات وغيرها من يوميات التفاصيل « المألوفة» في حياة العراق الديمقراطي الجديد.
فما الذي حدث إذن ليُصبح غير المرغوب فيه مرغوبا؟ ما الذي تغير ليعود إلى الواجهة من أشعل ترشيحه نار النزاع والاقتتال بين «أهل البيت» وأظهر الى العلن ملفات الابتزاز، بأنواعه، من التعيينات الحكومية إلى المقاولات إلى إدارة شبكات التهريب والدعارة، والتهديد بفضح الفساد، والإرهاب العام بإطلاق يد ميليشيات الاختطاف والقتل، وأن يجري هذا كله في أجواء صمت المرجعية الدينية التي يُفترض أن معظم الساسة العراقيين يتبعونها ويطيعون إرشاداتها على الأقل؟
يحتاج تفكيك الصورة إلى وضع مماحكات ومهاترات الساسة المناهضين لعملية الاختيار وما سبق العملية وما سيليها من قصف وتفجيرات، جانبا. لا لقلة أهميتها، فهي العنصر المحّرك للواقع المشوه، ولكن لإضاءة دور التدخل الخارجي وحجمه وكيفية فرضه أو عدم فرضه، الأجندة الداخلية. لعل أهم تغيير حدث، منذ انتهاء الانتخابات ومباركتها دوليا وإقليميا وتبنيها الكلي من قبل منظمة الأمم المتحدة، هو تراجع المنظمة عن « اللغة الناعمة» التي تلجأ أليها عادة في مخاطبتها الساسة العراقيين.
فكان تصريح ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس ـ بلاسخارت، خلال جلسة طارئة لمجلس الأمن حول الحالة بالعراق، في 4 تشرين الأول/أكتوبر، قويا في نقده النظام ومتضمنا يأس المنظمة من دعم الساسة المنخرطين في «الشقاق ولعبة النفوذ السياسي على حساب الشعور بالواجب المشترك… حيث كان العراقيون رهينة لوضع لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن احتماله، ليتحول إلى اشتباكات مسلحة». محذرة بلهجة صارمة أن «خيبة أمل الشعب قد وصلت إلى عنان السماء… وفقدان العديد من العراقيين الثقة في قدرة الطبقة السياسية في العراق على العمل لصالح البلد وشعبه…
وإن النظام السياسي ومنظومة الحكم في العراق يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي». مشخصة بأن السبب الجذري الرئيسي للاختلال الوظيفي في البلد هو الفساد المستشري. وهي إن لم تكشف، بتقريرها، سرا لا يعرفه العراقيون، إلا أنها أكدت بؤس الحالة المتردية التي وصل إليها العراق.
وكان لإحاطتها قوة العصا المُشّرعة بوجوه الساسة. وهي، مع الأسف الشديد، أكثر تأثيرا من دماء الشهداء المحتجين المطالبين بحقهم في الوطن ومن كل ما كُتب وقيل بصدق ووطنية عن التدهور الكارثي، بمختلف المجالات، في البلد، وعن المسؤولية الكبيرة التي تتحملها دول الاحتلال. وجاء عامل الضغط الثاني متمثلا بموقف المملكة المتحدة. حيث سارع السفير البريطاني مارك برايسون ريتشاردسون، لتأييد إحاطة بلاسخارت، مضيفا بما يقترب من التهديد أن أعمال العنف التي يشهدها العراق «غير مقبولة» و «لا يمكن السماح بتكرارها».
وجاءت الضربة التالية من السفير الأمريكي الذي أخذ على عاتقه تذكير الساسة بمرور عام على الانتخابات «ذات المصداقية» وعدم تمكنهم من حل خلافاتهم السياسية مما يتطلب «إجراء حوار واسع لشق طريق سلمي وشامل للخروج من المأزق السياسي الحال». كما ذكرهم بوجود اتفاقية «شراكة» بين أمريكا والعراق لاتزال أمريكا، في الوقت الراهن ملتزمة بها».
ولا يمكن، عند التذكير بدور القوى الخارجية، إهمال دور الكيان الصهيوني بمستويين المباشر وغير المباشر، سواء بشكل فردي أو مؤسساتي. أما التدخل الإيراني فهو متغلغل في عمق الحكومة والميليشيات ولا يجد النظام الإيراني حرجا في قصف العراق بذريعة استهداف مواقع لأحزاب كردية ـ إيرانية معارضة، منافسا بذلك تركيا التي تستخدم ذات الذريعة للتوغل وقصف الأراضي العراقية، وكان آخرها قصف منتجع، بمحافظة دهوك، في كردستان العراق في تموز/ يوليو.
جراء هذه الضغوط والتحذيرات المختلطة بالتهديد من الدول التي عملت بجد على تحطيم العراق ومن منظمة دولية لم تعد قادرة على تغطية عري الامبراطور، كان لابد وأن يتوصل المتنازعون على السلطة إلى حل يعرفون جيدا أنه ليس علاجا حقيقيا إلا أنه يضمن لهم إبقاء العراق ضعيفا، تحت طائلة عنف مستدام، لتسهل السيطرة عليه كمصدر للطاقة وتحجيمه كواحد من آخر الدول العربية الرافضة للاعتراف بالكيان الصهيوني.