المتأمل في الواقع الذي نعيشه، يجد أن الأخلاق لم يعد لها مجال، في غالب الأحيان، في حياتنا، وكأنها تدفعنا إلى التخلف والتأخّر في جميع الميادين! ودون أن نشعر نستبدل أخلاقنا الإسلامية بما يُسمى الأخلاق النفعية أو المكيافيلية، التي تبرر الوسيلة للوصول إلى الغاية التي يريدها أي إنسان في حياته، مهما كانت هذه الوسيلة مخالفة لديننا وعاداتنا وتقاليدنا.
وقد تصيبنا الدهشة الشديدة مما آل إليه أمر المسلمين! حتى لقد انتشرت مقولة: إن في بلاد المسلمين إسلام بلا مسلمين، وفي بلاد الغرب مسلمين بلا إسلام! وذلك للدلالة على عدم اتصاف المسلمين بأي أخلاق للإسلام، في الوقت الذي يتحلى فيه الغربيون بصفات الإسلام مع عدم إسلامهم!
هذا البعد عن الأخلاق خلّف لنا العديد من المظاهر على مستويات عدة:
ـ في الجانب الاقتصادي: الغشِّ، والرِّبا، والاحتكار، والاستغلال.
ـ في الجانب الاجتماعي: التفكُّكِ الأُسَري، والانحراف، والجفوة الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
ـ في الجانب السياسي: انتشار الفساد السياسي، والرِّشوة، والنفاق، والخداع.
ـ في الجانب الفكري: قرصنة المجهوداتِ الفكرية وتبَنيها، مع سياسات التجهيل، وترويج النَّماذجِ الفكرية الفاسدة.
ـ في الجانب الإعلامي: الانحرافُ الأخلاقي، انتشار المشَاهِد الخادشة للحَيَاء، والتَّضليل الإعلامي، والترويج للكذب، وغير ذلك.
ـ في الجانب التربوي: ففي الغالب نجد أن مؤسسات التكوين مثل المدارس والكليات؛ تُسلِّم لخريجيها شهادات فارغة من المحتوى الأخلاقي.
أقول: لا يكفي الإنسان منّا أبدًا أن يكون ذا علمٍ غزيرٍ، ومعرفة بأصول دينه وفروعه، وبما يجب عليه تجاه ربِّه وتجاه أُمَّته، وما ينجيه في الدنيا والآخرة فقط، وإنما يجب أن تتحوَّل هذه المعرفة إلى عملٍ، وأن يُترجم هذا العلم إلى سلوك، وإذا لم يعمل المسلم بعلمه كان عليه وبالاً.
أهمية الجانب الأخلاقي في الإسلام
للجانب الأخلاقي في الإسلام أهميَّة كبيرة ليست لغيره، وحسبنا أن نقف مع حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي جمع فيه كلَّ البرِّ في كلمةٍ واحدة، فقال: "البر حُسن الخُلق" (رواه مسلم)، كما جعل الخُلق الحَسن معيار حُبِّه، صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن مِن أحبّكم إليَّ أحسنكم خُلقًا" (رواه البخاري)، كما سُئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أكثر ما يُدخلُ الناس الجنة، قال: "تقوى اللهِ وحُسنُ الخُلقِ" ( رواه الترمذي).
ومن دعاء النبيِّ، صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهدِني لأحسن الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيِّئها؛ فإنه لا يصرفُ سيِّئها إلا أنت".
ومدح الله عزَّ وجل نبيَّه، صلى الله عليه وسلم، بحُسْنِ خلقِه، فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وهذه العناية العُظْمى بالأخلاق في الإسلام لفتَتْ نظرَ كثير من الكُتَّاب حتى من غير المسلمين، وجعلَتْهم يسمُّونه بدين الأخلاق، ومن هنا كان كلُّ مسلم يحتاج ليعرف، ويفهم كيف يتكون البناء الخُلقي الذاتي؛ ليكتسب الأخلاق الحسنة، ويتخلَّص من الأخلاق السيئة في مشوار حياته، حتى يصلَ إلى أعلى درجة يستطيعها من الكمال الخلقي، ولكل مجتهدٍ نصيبٌ.
ومن ثمَّ وجب علينا أن نعيد حساباتنا ونراجع أنفسنا في أخلاقنا ومعاملاتنا، وننظر بعين الناقد لتصرفاتنا، ونسأل أنفسنا هل غياب الأخلاق سيحقق لنا ما نريد، وهل علمنا النظري بتلك الأخلاق دون تطبيقها يفيدنا، أم أنه من الواجب علينا أن نعيش بأخلاقنا ونتواصل ونتعايش بها؟
قال الإمام ابن القيم، رحمه الله: جمع النبي، صلى الله عليه وسلم، بين تقوى الله وحُسن الخلق؛ لأن تقوى الله تُصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يُصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
فالأخلاق هي رافعة المجتمع، فحين تكون الأخلاق موجودة في سلوكيّات أيّ مجتمع من المجتمعات، فهذا يعني أنّ هذا المجتمع متحضّر متمدّن يسعى للتّقدم والرِّفعة بين الأمم، كما أنّ الأخلاق هي معيار بقاء الأمم والحضارات، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن خيريّة الرجل لا تقاس بصلاته، وصيامه فحسب بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه، فعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قال: لم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاحشًا ولا مُتفحِشًا، وكان يقول: (خياركم أحاسنكم أخلاقًا).
وقد بيّن عبد الله بن المبارك، رحمه الله، حسن الخلق فقال: "هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى"، وقال الإمام أبي حامد الغزالي، رحمه الله: "إن الألفة ثمرة حُسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحابب، والتآلف، والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض، والتحاسد، والتدابر".
وقد قيل قديمًا: "اتباع الهوى يُفرِّق كما أن الحب والإخاء يُجمِّع، وإن الاتحاد قوة، والتفرق وهن وضعف، وإن سبيل الله واحد، وسُبل الشيطان متفرقة، فمن تبعها فقد ضل وغوى".
وقال الإمام ابن القيم، رحمه الله: جمع النبي، صلى الله عليه وسلم، بين تقوى الله وحُسن الخلق؛ لأن تقوى الله تُصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يُصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
فهذه المبادئ الأخلاقية ضرورية في بناء المجتمعات سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا وثقافيًا، كما هي محاور فكرية متباينة مستنيرة ترسي دعائم قيام المجتمع الإنساني، كما يريد خالق البشر، ويشعر الإنسان من خلالها أنه خليفة الله في الأرض بما ناله من تكريم إلهي، يحيا من خلاله حياة آدمية كما ينبغي أن تكون.
إذن أين تكمن المشكلة؟ أتصور أن أصل الداء لدينا هو أننا لا نواجه أنفسنا بالمشكلة، ولا نبحث لها عن حلٍ ناجعٍ، وليست لدينا، في غالب الأحيان، الإرادة الحقيقية لتغيير الأوضاع وتحسين الأخلاق.
وسائل تقويم الأخلاق
هناك وسائل عديدة يمكن من خلالها السعي إلى تقويم الأخلاق منها:
1 ـ العلم والمعرفة: وبه يتعرَّف المرء على أنواع الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام، وأنواع الأخلاق الرديئة التي نهى عنها الإسلامُ، وهذا العلمُ ضروريٌّ ليعرف المسلم بأي خُلقٍ يتخلَّق، ومن أي خُلُق يتخلَّص.
2 ـ أن يربطَ بين ما تعلَّمه من أنواع الأخلاق، وبين الإيمانِ بالله وتقواه، وأن يعلم بشكل كامل كيف أن تخلُّقَه بالأخلاق الحسنة سببٌ لنيل رضوان الله ودخول الجنة، وتخليصِه من النفاق ومن ضعف الإيمان.
3 ـ لا يكفي مجردُ العلم السابق بل لا بدَّ من استحضار ما تعلمه عن الأخلاق بشكل دائم، وتطبيقه بشكل عمليٍّ في مواقف الحياة اليوميَّة العابرة والمتكرِّرة؛ حتى تصبح سجيَّة له.
4 ـ الاهتمام بتقويةِ معاني العقيدة الإسلامية في النفس، وأهمُّها: الإيمانُ بالله، واليوم الآخر، وبرسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، وأن الإنسان راحل عن هذه الدنيا، ومجزِيٌّ بعمله؛ إنْ حسنًا فحسنٌ، وإنْ سيئًا فبما عمل.
5 ـ مباشرة الأعمال الطيبة التي تساعد على تقويمِ الأخلاق، وتُسهِّل قبولَ الأخلاق الفاضلة، وتُخلِّص النفس من الأخلاق السيئة؛ لأن العلم وحدَه لا يكفي، بل لا بدَّ له من عمل، كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9]، ولم يقل سبحانه: قد أفلح من تعلَّم كيفية تزكيتِها.
الأخلاق هي رافعة المجتمع، فحين تكون الأخلاق موجودة في سلوكيّات أيّ مجتمع من المجتمعات، فهذا يعني أنّ هذا المجتمع متحضّر متمدّن يسعى للتّقدم والرِّفعة بين الأمم، كما أنّ الأخلاق هي معيار بقاء الأمم والحضارات،
6 ـ وهنا يأتي دورُ العبادات التي هي من الأعمال الطيبة المؤدِّية لتقويم الأخلاق؛ فهي تزكي النفسَ وتزيدها طهرةً وزكاة وقوة ووقاية، قال تعالى في الصلاة: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].
وقال تعالى عن الزكاة: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103].
والصوم يربِّي النفس على الصبر، وقوة الإرادة والعزيمة، ويُخلِّصها من الرياء. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
والحجُّ تربية على الصبر والإخلاص والاستعلاء على شهواتِ الجسد، وإنفاق المال والوقت فيما يحبُّه الله. ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ﴾ [البقرة: 197].
وهكذا بقيَّة العبادات؛ بدوامها تزكو النفوس، وتدوم فيها معاني الإيمان.
7 ـ مخالفة الأخلاق السيئة التي يُراد التخلُّص منها، فكلٌّ منّا لديه بعض الأخلاق السيئة التي يريد أن يتخلَّص منها، ومعاكسة هذه الأخلاق السيئة ومضادتها طريقة مناسبة للتخلُّص منها.
جاء في الحديث: أن رجلًا شكا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قسوة قلبه، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "امسَحْ رأسَ اليتيم، وأطعِمِ المسكين".
وجلوس المتكبِّر مع الفقراء والمساكين علاجٌ نافع للكِبر، والقيام بأعمال حقيرة عند الناس يساعده على التخلُّص من الكبر؛ مثل: حمل الحطب، أو حمل حاجياته.
ويُشْبه ذلك قولُ النبي، صلى الله عليه وسلم: "إذا غضب أحدُكم وهو قائم، فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فلْيضطجِعْ".
8 ـ مسلكُ التكلُّف: فيتكلَّف الإنسان الأخلاق التي يريد التخلُّق بها، كما لو أراد أن يكون حليمًا، فإنه يأتي به تكلُّفًا مرارًا؛ حتى تألفَه النفسُ وتعتاده، ويصير لها كالطبع والسجيَّة، وفي الحديث: "إنما العلمُ بالتعلُّم، والحِلم بالتحلُّم". وهذا يحتاج تَكرارًا؛ حتى يؤتي ثمرته.
9 ـ مخالطةُ المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة ومجالستُهم، والسماعُ منهم؛ لأن رؤية الصالحين ذوي الأخلاق الحسنة ومجالستَهم والسماع منهم، تؤثِّر في النفس، وتؤدِّي إلى اقتباس بعض أخلاقهم.
وقد ورد في الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقي".
10 ـ اتِّخاذ القدوة الحسنة، وخير قدوة على الإطلاق هو رسولُنا، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فإذا فاتك رؤيةُ الرسول، صلى الله عليه وسلم، ببصرك، فلا تفوتُك رؤيته ببصيرتك، وإذا فاتتك صُحبته، فلا تفوتُك صحبة سيرتِه، وشمائله، وأخلاقه من خلال قراءة سيرته، وأحاديثه.
وكذلك استحضار سيرة صحابتِه، رضوان الله عليهم وأخلاقهم؛ فهم نتاج تربيته، صلى الله عليه وسلم، المباشرة.
11 ـ تركُ البيئة الفاسدة، والفرار منها كما يفرُّ المرء من المكان الموبوء.
فلا يجوزُ للمسلم التعرُّض للبيئة الفاسدة ذات الناس الفاسدين بحُجة أنه متين الأخلاقِ، لا يخشى التأثُّر بهم؛ فهذا غرور ووهمٌ، ومثاله مثل من يتعرَّض إلى المكان الموبوء بمرض السُّلِّ ونحوه بحجة أنه قوي البِنية.
ويشهد لهذا حديثُ قاتلِ المائة نفسٍ، وكيف دلَّه العالم على تغيير البيئة؛ لتتمَّ له توبته.
وفي الختام أقول: إن العاصم من الفساد الأخلاقي بالدرجة الأولى؛ هو الأسرة، ودورها في ضرورة التوجيه السليم والتربية الصحيحة، وتأتي الصحبة الصالحة ثم المدرسة، وبصلاح الأُسر تصلح المجتمعات.
وصدق مَخْلد بن الحسين (191هـ): "نحن إلى كثير من الأدب، أحوج منّا إلى كثير من الحديث"، وكما قال ابنُ القيم، رحمه الله (751هـ): "الدّين هو الخُلُق، فمن زادَ عليك في الخُلُقِ، فقد زاد عليك في الدين".
twitter.com/drgamalnassar
موقع إلكتروني: www.gamalnassar.com