حَلَّت في الثلاثين من شهر أيلول/ سبتمبر المنصرم، ذكرى وفاة الأستاذ
محمد يوسف عدس، المترجم القدير والباحث الرصين في شؤون الأقليَّات المسلمة؛ الذي
اشتهر بترجمته الفريدة لكتاب علي عزت بيغوڤيتش العمدة: "الإسلام بين الشرق
والغرب"، ثم بكتاباته عن الأقليات المسلمة، خصوصا في إقليم البلقان.
وقد شرفت بصحبة الرجل فترة من الزمن؛ فتتلمذت عليه ناهلا من معين
حكمته، إذ لم يكُن الرجل "عالما" بالمعنى المبتَذَل لامتلاء الصدر
بمعلومات وتفاصيل لا رابط بينها؛ تفيضُ من بين لحييه، بمناسبة وبدون مناسبة -كأكثر
المنسوبين للعلم من أهل زماننا!- وإنما كان حكيما مُتنسِّكا، قليل الكلام، وصاحب
بصيرة نفَّاذة، وقد تركت شخصيته ذات المظهر الهادئ الوقور، والقلب المضطرم؛ أثرا
غائرا فيَّ، ربما لا يعدله أثر غيره ممن صحبت من أساتذة.
وكنت قد تعرَّفت إلى إنتاج الأستاذ أواخر التسعينيات؛ في ترجمته
لكتاب عزت بيغوڤيتش المذكور. ثم من خلال مُتابعة مقالاته الشهريَّة في مجلة "المختار
الإسلامي"، التي تتلمذت على صاحبها وصحبته دهرا هو الآخر. كانت مقالات
الأستاذ عدس شيئا آخر؛ فعبارته رصينة واضحة، بليغة ومباشرة؛ لا إطناب فيها، قد خلت
من الاستعراض البلاغي والابتذال العاطفي، الذي طبع كثرة كثيرة من مُتأخري كتاب
المجلَّة. ولفرط إعجابي به، حصلت من المختار على رقم هاتف منزله، وهاتفته؛ فأتاني
صوته الهادئ الحاسم مُرحبا، لأكتشف أننا نقطن الحي نفسه تقريبا، وكان هذا بُشرى بأن
الصلة ستتوثَّق وتتوطَّد، وهو ما كان؛ إذ ظلَّ رحمه الله -طوال إقامته في مصر،
وقُبيل هجرته الثانية وهي الأخيرة مع نجله-، يُرحب بي في أي يوم أزوره قبل صلاة الظهر، فكان هذا هو موعده المفضَّل للقاء؛ إذ يكون صافي الذهن، حاضر البديهة، مُستعدا
للنقاش في أي شيء وكل شيء. وإذا كنت أول تعرُّفي به أطلب معرفته المطوية في صدره؛
فقد صرت بعد توطُّد المعرفة أسعى لأقبس منه المدد النفسي والروحي، فصار هذا المدد
النادر غايتي الأولى والأخيرة.
أبناء الأجيال الجديدة يقرؤون في الكتب عن قوَّة الروح، وصلادة الإيمان، ويسمعون بخُلق سيدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن نفوس الصحابة الفذَّة، وعن أرواح أسلافنا الكبار، لكنَّ الخُلُق الذي لا يتمثَّل في أناسي، ولا تراه أمامك يمشي على الأرض؛ لا تستطيع اقتباسه إلا في أحوال نادرة
إن
أبناء الأجيال الجديدة يقرؤون في الكتب عن قوَّة الروح، وصلادة الإيمان، ويسمعون بخُلق سيدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن نفوس الصحابة الفذَّة، وعن أرواح أسلافنا الكبار، لكنَّ الخُلُق الذي لا يتمثَّل في أناسي، ولا تراه أمامك يمشي على الأرض؛ لا تستطيع اقتباسه إلا في أحوال نادرة. لهذا، فقد كان من أعظم نعم الله
عليَّ أن خالطت الأستاذ يوسف عدس، رحمه الله وأسكنه الفردوس؛ فأدى الدور الأهم في
تغيير مفهوم القوَّة في روعي تغييرا كاملا، إذ كان رحمه الله دقيق الجسم، أبيض
الشعر، قصير القامة، خفيض الصوت؛ لا يأبه به الغر العابِر. أما من جالسه وحدَّثه؛
فقد وجد فيه قوَّة روحيَّة هائلة، حتى إنه كان يُذكرني دوما بسيدي ابن مسعود رضي
الله عنه.
وقد
كنت أصافحه حين ألقاه؛ فأكاد أحجبه عن الناظر لضخامة حجمي وضآلة جسده، بيد أن
قوَّة روحه كانت سريعا ما تستوعبني، ولم أجد لذلك تفسيرا إلا ما أحسبه من صدقه مع
الله -ولا أزكيه على ربه- ومواظبته على صلاة الليل، ودوام جهاده في الحضور مع الله
بأوراده من القرآن والذكر، فكأنه صار حرفيّا في معيَّة الله، وإذا الناظر إليه
تفرُّسا يُدرِك أنه لا يواجه رجلا عجوزا ضئيلا فانيا، بمعايير الدنيا الماديَّة؛
وإنما ينظر إلى عبدٍ شديد البأس مُعلَّق كُليّا بالله.
هذا
النموذج الفذ، هو الذي جعلني أستوعب -بسهولة ويُسر- كيف حطَّم فقيه عجوز وحيد -مُجرَّد
من كل سلاح- نظام إيران الوحشي، الذي كانت تُسانده القوى الكبرى. ويبدو أن زُهد
الإمام الخميني الكامل في الدنيا، قد أكسبه قوَّة روحيَّة هائلة؛ جعلت إرادة الشيخ
العجوز -بإذن الله- أقوى وأنجع في قلب نظام العالم.
لقد كان الأستاذ عدس مفتاحي
لفهم شخصية الإمام الخميني ودوره، وذلك كما ارتبط في روعي بسيدي ابن مسعود. إلا أن
القوة الروحية لم تكن هي الزاد الوحيد الذي قبسته منه؛ فقد فتح لي نوافذ عدَّة على
تفاصيل الحياة الثقافية التي شهدها في مصر شابّا، ووعاها جيله قبل هزيمة 1967م؛ فترابطت في ذهني الأسباب والمسببات،
واتضحت رؤيتي لقسم لا بأس به من تاريخنا الفكري والثقافي، منذ منتصف القرن العشرين.
فقد
كان الرجل الزاهد العابد القنوع من رواد صالون العقاد، كما تتلمذ على زكي نجيب
محمود وعثمان أمين، وغيرهم كُثر؛ فعرَّفني على فلسفة الأخير الملقَّبة بـ"الجوانية"،
وكيف حاربها كل أقرانه ومعاصروه. وأنار لي جوانب في شخصية زكي نجيب محمود، وقَّصَّ
عليَّ طرفا من تحولاته الأخيرة باتجاه الإسلام؛ التي سعى بعض تلاميذه لطمسها.
القوة الروحية لم تكن هي الزاد الوحيد الذي قبسته منه؛ فقد فتح لي نوافذ عدَّة على تفاصيل الحياة الثقافية التي شهدها في مصر شابّا، ووعاها جيله قبل هزيمة 1967م؛ فترابطت في ذهني الأسباب والمسببات، واتضحت رؤيتي لقسم لا بأس به من تاريخنا الفكري والثقافي، منذ منتصف القرن العشرين
وأذكر
أنه صدمني في العقاد صدمة عظيمة، لم أكن أتوقعها؛ فبقطع النظر عن المشهور من عدم
تديُّن العقاد، وما أكده لي عدس من أنه كان يعقد صالونه وقت صلاة الجمعة؛ فإن
الطين قد زاد بلَّة مثلا حين أحالني على أحد الفصول الأخيرة من كتاب أنيس منصور
الشهير: "في صالون العقاد"؛ الذي أقرَّ فيه المؤلف بأن العقاد كانت له
ابنة من سفاح، وقد أسكنها هي وأمها في الشقة المقابلة له! وقد صعقت لأني طالعت
الكتاب أكثر من مرة مُستمتعا ولم أنتبه لهذا الفصل؛ فكأن الإنسان يقرأ بعقله! فلما
عُدت إلى الكتاب بعدها؛ وجدت الفصل المذكور كأني أراه للمرة الأولى، ما كشف لي
جانبا آخر من جوانب شخصية العقاد، المفكر الأنغلوسكسوني صاحب اللسان العربي.
كان
الأستاذ عدس رحمه الله راسخ القدم في الفلسفة والعرفان الإسلامي، وقد دوَّن رسالة
الماجستير عن كتاب "الإنسان الكامل" لعبد الكريم الجيلي، وأحسب، إن لم
تُخني الذاكرة؛ أنه كان يسعى فيها للإفادة من فلسفة عثمان أمين الجوانية. بيد أن
حريق منزلهم في قرية بهوت (مركز نبروه؛ محافظة الدقهلية) ومعه مخطوط الرسالة؛ كان
إيذانا بانصرافه عن الأكاديميا، وتغيير مساره بالهجرة مؤقتا من مصر.
وربما
كان من التوفيقات الإلهية أن ألتقي هذا الرجل الفذ في طور النضج، فإذا هو يترك
بصمته في رؤيتي وفي نفسي بالقدر ذاته، وتتبلور بالحوار معه طائفة كبيرة من أفكاري
ومعتقداتي، بل وأفيد منه فائدة عظيمة في تقنيات الترجمة؛ تلك المهمة الإبداعية
التي كان يضطلع بها شغفا بغير انتظار للأجر المادي، إذ كان يتصدَّق بكل ما يأتيه
منها على بعض أهله المقرَّبين!
وإذا
كان كتاب علي عزت بيغوڤيتش
هو سبب شُهرته، فقد ترجم كتابا آخر لا يقل أهمية عنه، وهو كتاب العلامة محمد إقبال:
"تجديد الفكر الديني في الإسلام". بيد أنه رغم حماسته للكتاب وإعادة
اكتشافه لإقبال وفكره بهذه الترجمة، إلا أنها خرجت في أسوأ صورة كان يرجوها، وذلك
باعترافه هو؛ إذ ترجمها تحت ضغط وإلحاح من بعض منسوبي مكتبة الإسكندرية، حتى أدى
به ذلك للتقصير في أوراده وأذكاره ليفي بالتزاماته؛ فخرجت الترجمة وقد مُحقَت
بركتها، ولم يُكتَب لها القبول والشهرة مثلما كان لترجمة عزت بيغوڤيتش.
وقد زاد الأزمة كون جهة النشر نفسها مؤسسة عقيم؛ دفنت الترجمة في طبعة باهظة لا
تصل للقُراء!
وأذكر أنني حين طلبت منه إعادة نشر الترجمة بعدها بعدَّة سنوات، طلب
مني استئذان مكتبة الإسكندرية -بوصفها مالك حقوق الترجمة-، وأوصاني بمراجعة الترجمة
إن تمكنت من النشر؛ فهو غير راضٍ عنها، ولم تعُد به طاقة لمراجعتها، فقد أنهكته
هذه الترجمة كثيرا، وأنهكته معاملة القائمين على ذلك المشروع؛ حتى لم يعد قادرا
على إنجاز شيء بعدها.
كذلك، أذكر أن الأستاذ عدس كان قد نوى ترجمة مجلد سيرة محمد أسد
المشهور -الطريق إلى مكة- في الفترة التي نشط فيها ذهنه بعد تقاعُده، لكنَّ
أستاذنا الحاج حسين عاشور -ناشر المختار الإسلامي- أثناه عن ذلك، بحجة سبق
البعلبكي إلى ترجمتها ونشرها في دار العلم للملايين منذ أواخر الخمسينيات! ورحم
الله الحاج حسين؛ الذي لم يكن يعرف مدى دقَّة تلك الترجمة، ولا كان العبد الفقير -كاتب
هذه السطور- يعرف آنذاك أنها منقوصة مشوَّهة عمدا، رغم أنني كنت ممن ألح على
الأستاذ -آنذاك- لمواصلة المشروع، إلا أنه انصرف عنه لاقتناعه بكفاءة البعلبكي
مُترجما وناشرا!!
لم تنحصر علاقتي بالأستاذ رحمه الله في عزت بيغوڤيتش وفكره وترجماته، ورغم ما تعلَّمته منه في هذا الباب، ورغم إدراكه لأبعاد تأثري بالمفكر البوسنوي الفذ؛ فقد ساعدني على تجاوز التحيزات الأيديولوجية في قراءة عدد من المفكرين المصريين العلمانيين
لم
تنحصر علاقتي بالأستاذ رحمه الله في عزت بيغوڤيتش
وفكره وترجماته، ورغم ما تعلَّمته منه في هذا الباب، ورغم إدراكه لأبعاد تأثري
بالمفكر البوسنوي الفذ؛ فقد ساعدني على تجاوز التحيزات الأيديولوجية في قراءة عدد
من المفكرين المصريين العلمانيين، وعلى رأسهم الدكتور جلال أمين؛ الذي كان عدس
يُحبه ويُحسن الظن به، ويعتقد أنه لا يقول أو يكتب إلا ما يؤمن به مُخلصا، ومن ثم؛
كان جديرا بالتقدير والإكبار. وكان هذا ما وجدته فعلا في جلال أمين، اتفقت أو
اختلفت معه، إلا أنني احترمته. وما زلت أذكر نصيحة له -غير مباشرة- في الاستقلال
التام عن الأنظمة السياسية، خصوصا ما ادَّعى منها خدمة الإسلام! فقد قصَّ عليَّ أن
الصحفي المعروف جمال سلطان جاءه بعرض من مؤسسة حكومية سعودية، لنشر كتاب: "الإسلام
بين الشرق والغرب" طبعة تربو على الخمسين ألف نسخة؛ فما كان منه إلا أن رفض
رفضا قاطعا، وقال له: أنا لا أتعاون مع مؤسسات حكومية أو رسمية، لا في مصر ولا
خارجها.
ويطيب لي أن أختم هذه الباقة من الذكريات بقصَّة ارتباطي بالراحل عزت بيغوڤيتش،
التي كان الأستاذ رحمه الله أول شهودها؛ حتى حصلت -بحول الله وتوفيقه- مؤخرا على
الحقوق الحصريَّة لطباعة كتبه باللغة العربية. فقد أسستُ تنوير للنشر والإعلام في
شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2007م، وزُرتُ الأستاذ مطلع شهر نيسان/ أبريل 2008م؛
لأستأذنه في نشر ترجمة: "الإسلام بين الشرق والغرب"، فأخبرني أن أستاذنا
المسيري رحمه الله -وكان آنذاك في مرضه الأخير؛ إذ توفي في تموز/ يوليو
من العام نفسه- قد سبق وأرسل له ممثلو دار الشروق المصرية قبل
زيارتي بشهر واحد فقط، ليتعاقدوا معه على نشر الكتاب؛ حرصا على دوام توفُّره. وقد
قال لي حينها بالحرف: قدَّر الله وما شاء فعل، لو كنت زرتني مبكرا شهرا واحدا؛
لفُزتَ بالكتاب.. فلا أحب معاملتهم منذ نشروا ترجمتي لكتاب "الإعلان الإسلامي"،
وأرهقوني أيما إرهاق! فما كان مني -آنذاك- إلا أن أجبته: فاللهم لا تُمتني حتى
أنشر كتاب: "الإسلام بين الشرق والغرب"؛ فتبسَّم رحمه الله واغرورقت
عيناي، وها قد أجيبت نصف دعوتي بعد 15 سنة وحصلت على حقوق نشر
الكتاب؛ فلعل أجلي مُرتَهَنٌ بتمام نشره، والله أعلم حيث يجعل رسالته!
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry