استولى عبد الفتاح البرهان ونفر من كبار جنرالات الجيش السوداني على السلطة كاملة في 25 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، وأنهوا بذلك شراكة هشة مع قوى مدنية في حكومة تم تنصيبها في آب/ أغسطس من عام 2019، وكعادة جميع الإنقلابيين، فقد برر اغتصاب السلطة بفشل الحكم المدني في حل القضايا الشائكة التي تسبب فيها حكم حزب المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير، بل واتهم البرهان المدنيين بتعقيد ومفاقمة الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وطرح وعودا بقيادة السودان إلى بر الأمان، بتنظيم انتخابات عامة تؤسس لحكم ديمقراطي.
وطوال الإثني عشر شهرا الماضية فشل البرهان في تشكيل حكومة، وفي العثور على من يقبل بمنصب رئيس الوزراء، وانعدم الأمن والأمان في جميع المدن ونزف إقليم دارفور مجددا، وخلال الأيام القليلة الماضية بلغ عدد الضحايا في صراع قبلي في إقليم النيل الأزرق ما يربو على 170 قتيلا ومئات الجرحى، ثم وجد البرهان نفسه عاجزا حتى عن توفير الأموال اللازمة لدفع رواتب الموظفين والعمال في القطاع الحكومي، فترك الحبل على الغارب لوزير المالية جبريل إبراهيم الضالع في الانقلاب، وهو عسكري يرتدي الزي المدني، لأنه في الأصل قائد مليشيا مسلحة عليها ما عليها من الآثام، وسبق لها أن حاولت اقتحام العاصمة السودانية للاستيلاء على السلطة، فنشبت بذلك حرب شوارع في مدينة أم درمان أحد أضلاع العاصمة السودانية الثلاثة راح ضحيتها مدنيون لا ناقة لهم ولا جمل في أمور السلطة.
وجبريل هذا أصلا ربيب حكم البشير، فقد كان ممن تولوا عالي المناصب وفازوا بالمنح الدراسية في سنين الحكم الأولى، ولما تمرد أخوه خليل على الحكم ركب الموجة والتحق بالتمرد، وعندما تم اغتيال خليل تولى هو قيادة المليشيا بصفته "ولي العهد"، ولأنه تلميذ لحقبة عمر البشير فلم يجد جبريل أمامه من وسيلة لرفد الخزينة العامة بالمال إلا بالإفراط في فرض الضرائب والجبايات ورفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة والمصنعة محليا، حتى بات نحو ثلث سكان البلاد عاجزين عن الحصول على السلع الضرورية للحياة اليومية بسبب ارتفاع الأسعار، بل ودخلت الأسواق في سبع ولايات في إضرابات لأن الضرائب الباهظة التي فرضها جبريل عليهم تحتم عليهم رفع الأسعار بنسب تتراوح ما بين 600% و1000%، مما يعني أنهم لن يجدوا مشترين لبضائعهم، وعليه فلا جدوى من إبقاء المتاجر مفتوحة.
مر الشعب السوداني بأعوام رمادة كثيرة ومتكررة، ولكن الويلات التي عانى منها خلال العام المنصرم بلا نظير في التاريخ الحديث والوسيط، فقد انعدمت الأدوية المنقذة للحياة، وتضاءل حجم رغيف الخبز بينما تضخَّم سعره، وصار سكان الخرطوم يلزمون بيوتهم ليلا بعد أن تكررت هجمات المليشيات على الناس في الشوارع لتجريدهم من ممتلكاتهم الشحيحة، ومن يمشي بين الأحياء الموسومة بـ "الراقية" في الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان يحسب أنه في غوانتنامو، لأن السلك الشائك يعلو جدران جميع البيوت، لاتقاء غارات لصوص مسلحين بالبنادق سريعة الطلقات، في غياب شبه تام لرجال الأمن.
في إحدى قنوات يوتيوب السودانية طافت الكاميرا تسأل صبيانا في سن الدراسة عن سبب تجولهم في الشوارع أثناء اليوم المدرسي، فأجاب أحدهم: محمد حمدان دقلو (حميدتي) لا يحمل حتى شهادة إكمال المرحلة الابتدائية، وها هو قد صار الرجل الثاني في الحكومة، ويحمل رتبة فريق أول العسكرية، ثم أضاف "حميدتي قدوتي وإن شاء الله أصير مثله بدون تعليم".
ثم فتحت مدارس السودان أبوابها قبل نحو شهر من الزمان، فإذا بملايين الطلاب يسجلون غيابا مستمرا عنها، مما اضطر منظمة يونسيف لقرع ناقوس الخطر، لأن زهاء سبعة ملايين طفل انصرفوا عن المدارس؛ بعضهم لأن الضوائق المعيشية أرغمت أهلهم على إدخالهم سوق العمل العشوائي، ولكن معظمهم لأن وزارة التربية فرضت رسوما فلكية حتى على التعليم الابتدائي في المدارس الحكومية، وحتى أولئك الأطفال الذين دفع أهليهم مبالغ طائلة لإلحاقهم بالمدارس فوجئوا بأن معظم المدارس بلا معلمين أو كتب، وفي ولاية وسط دارفور، هجر 63 في المئة من الأطفال المدارس؛ بينما تصل نسبة الغياب في غرب دارفور 58%، وفي ولاية كسلا في شرق السودان 56%، وتخيل حال بلد تبلغ نسبة الأمية فيه حاليا 24%، يكون فيه سبعة ملايين من شبابه أميين وهم في سن العشرين بعد نحو 15 سنة، بينما تحلم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو) بالقضاء على الأمية في العالم العربي بحلول عام 2050.
هذا بعض حصاد هشيم انقلاب البرهان بتسليع التعليم بحيث يصبح فقط للموسرين، ولعل البرهان وأمثاله من الحكام العرب يحسون بالخزي والملايين من مواطنيهم يعانون من الأمية، عندما يعلموا أن نسبة الأمية بين الفلسطينيين فقط 3%، وهم في واقع الأمر يعيشون في وطن افتراضي شحيح الموارد، كما أن نسبة الأمية في الأردن أيضا 3% على قلة وضآلة موارده الاقتصادية (قطر هي أقل البلاد العربية معاناة من الأمية ـ فقط بنسبة 2%).
في إحدى قنوات يوتيوب السودانية طافت الكاميرا تسأل صبيانا في سن الدراسة عن سبب تجولهم في الشوارع أثناء اليوم المدرسي، فأجاب أحدهم: محمد حمدان دقلو (حميدتي) لا يحمل حتى شهادة إكمال المرحلة الابتدائية، وها هو قد صار الرجل الثاني في الحكومة، ويحمل رتبة فريق أول العسكرية، ثم أضاف "حميدتي قدوتي وإن شاء الله أصير مثله بدون تعليم".
وطنيون وخونة وأكاذيب رسمية.. (أكفر بكم ـ 5)