حادث الثورة أدخل على الإحداثيات اضطرابا كبيرا، فحلّلنا ما جرى بروح
متفائلة معتمدين على عبقرية الحدث. لكن الانقلاب أعاد إلينا بعض الرشد فعدنا ننظر
بشيء من الواقعية، فالشعب الذي قبل الخضوع لنظام ابن علي لمدة ربع قرن مستمتعا بالتذلل
لأصهاره هو نفسه الذي يخضع الآن لانقلاب غبي يهين ذكاءه كل شروق شمس.
سنتعسف على المفاهيم وعلى علم الاجتماع نفسه، فليس هناك شيء خالص اسمه
الشعب، أو ليس هناك سلوك جماعي موحد لجماعة بشرية متعايشة في حيز جغرافي واحد،
لكننا نسجل بالملاحظة المدربة اتفاقا واسعا حول سهولة الانقياد دون إعمال عقل في
الاتجاه. ويبدو لنا أن المزاج العام الذي يقوده عدد صغير من إعلاميين جهَلة هو الأصل،
أما الشعب الذي ألهم وول ستريت فهو الاستثناء الذي يؤكد قاعدة. إن الشعب الذي يقاد
بهذه السهولة لا يخيف جيرانه والمحيطين به، ولذلك يمكن الإملاء عليه واستعماله، بل
ربما التمتع بإذلاله لتزجية الوقت في العواصم الكبرى التي بنت مجدها على تجارة
العبيد ذات يوم.
شعب متعلم؟ غريبة
الأرقام الرسمية مريحة جدا.. هذا الجماعة البشرية متعلمة في الغالب الأعم،
والأميون فيها يخرجون من التعداد بحكم الطبيعة والحكومات سعيدة بالأرقام وبالمدرسة
التونسية وتبارز بها، لكن لننظر خلف الأرقام. أدركت الثورة أحد أكبر أساتذة
الجامعة وصناع التوجهات البحثية فيها، وهو يحبر كتابا في مديح زوجة الرئيس السابق
وهي تعد نفسها لاستلام السلطة من بعده. حرمت الثورة الكاتب الألسني الكبير من أجر الكتاب
فسار مطأطئ الرأس، لكنه لم يكن الوحيد، لقد كان تحبير كتاب في مديح السلطة يمكّن
كاتبا من سفارة أو وزارة، والشعب يراقب ويهز كتفيه.
يبدو لنا أن المزاج العام الذي يقوده عدد صغير من إعلاميين جهَلة هو الأصل، أما الشعب الذي ألهم وول ستريت فهو الاستثناء الذي يؤكد قاعدة. إن الشعب الذي يقاد بهذه السهولة لا يخيف جيرانه والمحيطين به، ولذلك يمكن الإملاء عليه واستعماله، بل ربما التمتع بإذلاله لتزجية الوقت في العواصم الكبرى التي بنت مجدها على تجارة العبيد ذات يوم
شعب متعلم نعم وله نخبة، لكنه لا يجرؤ على تحرير المدرسة من العائق الجبار
الذي يكبلها منذ قرنين، فلا تكون إلا مدرسة محلية بلا صدى وهو اللغة الفرنسية.
المتعلم التونسي لا يتحرك إلا في المجال الفرانكفوني، فإذا أراد الخروج منه يعود
إلى تعلم لغة أكثر جدوى، وهو الأمر الذي حوّل الجامعة التونسية إلى مركز مهني
لتكوين أطباء ومهندسين وفنيين لخدمة
فرنسا؛ التي ينصرف أولادها إلى متع حياة أخرى
تاركين أعمال السخرة ليد عاملة متطوعة من التونسيين.
آه، لنذكّر بأمر بسيط ولكن له دلالة كبيرة على روح هذا الشعب الذي يسهل
قياده، ففي السنوات الأخيرة وضع مستثمرون فرنسيون أيديهم على نُزلٍ تونسية موشكة
على الإفلاس، فحولوها إلى مآو للعجزة الفرنسيين يُجلبون من مشافيهم الفرنسية ذات
الكلفة العالية ويعالَجون ويُدفنون في تونس، بما حوّل البلد إلى مقبرة. ويقول
الإعلاميون المشار إليهم أعلاه إن هذا من حسن الاستثمار والإمكانيات التونسية الواعدة..
نعم توجد أماكن شاغرة لدفن موتى الفرنسيين فالكلفة هنا أقل بكثير. البلد المقبرة
يسهل قياده والتعليم يتحول إلى وسيلة إذلال وتبرير للذلة، بدءا من النخبة
الجامعية.
احتمالات التمرد تساوي صفرا
كيف ننكر على الشعب الذي أطلق الربيع العربي عبقريته وننفي أن يثور مرة
ثانية؟ لنراجع الوقائع.. فجر الربيع العربي أدرك الحركات الإسلامية خارجة من
سجونها تبحث عن متنفس، فضخت فيه من أرواحها وصعدت الخطاب. كانت الصورة واضحة لمن
يراقب الأوضاع من الخارج؛ لا يوجد شارع يتحرك إلا إذا سار فيه الإسلاميون، إنهم
الجمهور الوحيد، فإذا أمكن الفصل بين هذا الجمهور وبين بقية المتكلمين باسم الشعب
فلن يكون هناك شارع يهدد أية سلطة. لكن يجب أن يكون هذا الفصل مبررا ليقبله الشارع
الذي يراقب ولا يشارك، وتكفّل حفنة من إعلاميين مرتزقة بالأمر في تونس ومصر، ففصل
الإسلاميون عن الشارع بخطاب مهين، وأمكن للخارج إعادة التحكم في الداخل بأقل
القليل من الجهد ودون دفع أي ثمن مادي.
كيف ننكر على الشعب الذي أطلق الربيع العربي عبقريته وننفي أن يثور مرة ثانية؟ لنراجع الوقائع.. فجر الربيع العربي أدرك الحركات الإسلامية خارجة من سجونها تبحث عن متنفس، فضخت فيه من أرواحها وصعدت الخطاب. كانت الصورة واضحة لمن يراقب الأوضاع من الخارج؛ لا يوجد شارع يتحرك إلا إذا سار فيه الإسلاميون، إنهم الجمهور الوحيد، فإذا أمكن الفصل بين هذا الجمهور وبين بقية المتكلمين باسم الشعب فلن يكون هناك شارع يهدد أية سلطة
إن التأمل في ما بذل من جهد لتوجيه الشارع يسهّل علينا القول إن التحكم في
ما يسمى الشعب التونسي أمر سهل وبلا كلفة، فيكفي ملء بطن إعلامي ذرب اللسان بشيء
من مال أو حتى رحلة إلى باريس وحقيبة ملابس جديدة ليجد جُملا تقنع عموم الناس
بالوجهة التي يريدها الممول.
هل معركة فرنسا مع
الإسلاميين هي معركة التونسيين؟ هذه ليست معركة تونسية،
مثلما لم تكن معركة المصريين مع الإخوان ولا معركة الجزائريين مع جبهة الإنقاذ،
هذه معركة "صليبية" تقودها فرنسا الصليبية وتواصل بها حملة لويس التاسع
المهزوم حيثما ولّى (من المنصورة إلى تونس). ولن نفصّل الأمر هنا، لكن نتخذه وسيلة
لتبيان سهولة استجابة النخب التونسية وكثير من عوام الناس لهذه المعركة وانخراطهم
فيها، وتضييع فرصة الديمقراطية على القلة الواعية بمسارات بناء الديمقراطية
والتحرر.
سهولة الاستجابة رغم ما أشرنا إليه من ارتفاع مستويات التعلم يعيدنا إلى
العنوان؛ الشعب الذي يسهل توجيهه إلى غير معاركه (وخاصة بحفنة من الإعلاميين
الجهلة)، فيخوض معارك الآخرين ضد مصالحه الخاصة لا يمكن أن يخيف أحدا، إنه قطيع
في نظر من يسيّره من الخارج ولأنه كذلك فليعامل معاملة القطيع.
الشعب الذي يسهل توجيهه إلى غير معاركه (وخاصة بحفنة من الإعلاميين الجهلة)، فيخوض معارك الآخرين ضد مصالحه الخاصة لا يمكن أن يخيف أحدا، إنه قطيع في نظر من يسيّره من الخارج ولأنه كذلك فليعامل معاملة القطيع
مشهد أخير يليق بالشعب التونسي
يجلس الجاسوس الفرنسي في مطعم تونسي ويسمع من النخبة التونسية ما يثلج صدره،
وغالبا ما يكون هذا الجاسوس خبيرا في أمر ما مثير للإعجاب والانبهار ويبحث في أمر
من قبيل "هل المرأة التونسية تجامع أفضل من المرأة الفرنسية؟"، فنفتح له
نقاشا بلا نهاية، فيلقي في الحوار جملة عن أهمية دور النقابة في الحفاظ على مسار
التحديث السياسي الذي أسسه الزعيم بورقيبة الذي لا مثيل له في الزعامات العربية.
تنتفخ أوداج المثقف التونسي الخبير بدوره في شيء ما فيوغل في الشراب، فلديه زعيم
تجلّه فرنسا ولديه انطباع جيد حول حرارة فراشه، فزوجته ليست شقراء باردة، ولديه
نقابة تحرس التقدمية.
في الأثناء يتابع الجاسوس الفرنسي تقدم بلاده في الاستيلاء على مؤسسات
منتجة دمرتها النقابة لكي لا يحكم بها الإسلاميون الرجعيون. خارج المطعم الفاخر
تضع فرنسا يدها على الموانئ الاستراتيجية وعلى شركة الاتصالات وعلى شركة الطيران وحتى
على شركة صنع السجائر، وكانت قبل ذلك استولت على الإسمنت والحديد مقابل ربع قرن من
الحكم المريح لابن علي وأصهاره. ربما يطرح مؤرخ فرنسي على نفسه سؤالا في باب
المراجعة: لماذا نرهق جيش فرنسا باحتلال تونس؟ يمكن دعوة مثقفين تونسيين وبعض
الإعلاميين لعشاء فاخر وشكر نقاباتهم على حراسة مشروع التحديث، في آخر السهرة
يتكفل المضيف بثمن المشاريب ويرسل الجاسوس الفرنسي تقريره: كل شيء على ما يرام،
حتى أنه يمكننا مواصلة الاستثمار في قيس سعيد فهذا الشعب لا يخيف أحدا.