مهما
اختلفت مواقف التونسيين من الاتحاد العام التونسي للشغل ودوره في شرعنة نظام
المخلوع أو في اندلاع "الثورة التونسية"، وفي الاستضعاف الممنهج للدولة
خلال "المرحلة التأسيسية"، ومهما تباينت آراؤهم في توصيف دور المركزية
النقابية في إفشال مسار الانتقال الديمقراطي، ومن بعد ذلك في التمهيد لـ25 تموز/ يوليو ودعم مساره القائم على ضرب
الأجسام الوسيطة وبناء نظام الحكم الفردي، فإنه لا أحد يستطيع أن يُنكر أنّ هذا
"الشريك الاجتماعي" كان وما زال رقما صعبا في معادلات الحكم والمعارضة.
ورغم
محاولة المركزية النقابية التملص من أية مسؤولية عن "العشرية السوداء"،
ومحاولاتها المتكررة للتموقع ضمن الحزام الداعم لـ"تصحيح المسار" (ولو
بصورة "نقدية" في الظاهر)، يبدو أنّ علة وجودها ذاتها (الدفاع عن الفئات
الهشة وعن المؤسسات العمومية، وكذلك الدور السياسي المتمثل في الدفاع عن "المكتسبات
المجتمعية") قد أصبحت محلّ تهديد جدي في ظل مشروع "الديمقراطية
القاعدية"، وكذلك بحكم الالتزامات الحكومية تجاه صندوق النقد في إطار ما
يُسمّى بـ"الإصلاحات الهيكلية" التي سيتحمل "الشعب" -لا رؤوس
الأموال- كلفتها الأساسية.
قبل الثورة، كان لنظام المخلوع جناحان، أو أداتا قمع أيديولوجي وضبط اجتماعي، هما حزب التجمع والاتحاد العام التونسي للشغل، وكانا معا في خدمة القصر وجهاز القمع البوليسي
قبل
الثورة، كان لنظام المخلوع جناحان، أو أداتا قمع أيديولوجي وضبط اجتماعي، هما حزب
التجمع والاتحاد العام التونسي للشغل، وكانا معا في خدمة القصر وجهاز القمع
البوليسي. وقد لا نحتاج هنا إلى التذكير بـ"الشُّعب المهنية" التي
انتشرت في كل المؤسسات العامة والخاصة، كما لا نحتاج إلى ذكر عدد القيادات
النقابية التي دخلت "مجلس المستشارين" للتدليل على ذلك التداخل الذي
عرفته العلاقة بين السلطة و"الشريك الاجتماعي".
إننا
في الحقيقة أمام علاقة تاريخية تجد جذورها زمن تأسيس الدولة- الأمة أو الدولة
الوطنية، وهي علاقة عرفت بعض الاهتزازات أو القطائع المؤقتة خاصة سنتي 1978 (الخميس الأسود) و1984 (انتفاضة الخبز). أما في عهد المخلوع فقد اتسمت العلاقة بـ"التعامد" (أي
الاعتماد المتبادل) القائم على الدعم اللا مشروط للسلطة، خاصة في صراعها المفتوح
ضد الإسلاميين وفي سياسة الخصخصة في بعض المؤسسات العامة لفائدة العائلات الحاكمة،
مقابل بعض التسويات القطاعية والامتيازات الفردية.
رغم
التعدد السياسي الكبير الذي عرفته تونس بعد الثورة، بقيَ الاتحاد (خيمة تونس) مُصرا
على الانفراد بإدارة الشأن النقابي وتهميش الأجسام النقابية الوليدة. وقد ساندته
في ذلك كل "القوى الديمقراطية" -بل حركة
النهضة ذاتها رغم اختلاف
الأسباب- حتى قبل أن يعود ورثة التجمع إلى واجهة المشهد السياسي ثم من بعد ذلك إلى
السلطة برئاساتها الثلاث سنة 2014. كما حرص الاتحاد خلال المرحلة التأسيسية
وفي الفترة التي حكمتها "الترويكا" على تأكيد انحيازه الصريح للمعارضة،
وذلك عبر إضعاف منظومة الحكم (بالإضرابات العامة والقطاعية) وتعفين المشهدين
السياسي والاقتصادي، وهو ما أدى إلى إسقاط "الترويكا" وإجراء
"الحوار الوطني"، ذلك "الحوار" الذي صدق الرئيس
قيس سعيد
عندما قال عنه بأنه لم يكن حوارا (كان فرضا للإملاءات التي تعيد هندسة المشهد
السياسي بمنطق انقلابي خفي)، ولا وطنيا (كان نتيجة تدخلات خارجية وفي خدمة
المنظومة القديمة ونواتها الصلبة).
"خيمة تونس" هي في الحقيقة خيمة "العائلة الديمقراطية" لا خيمة كل التونسيين، وهي تستصحب بلا مواربة منطق إقصاء الإسلاميين بحجة الخوف من "الاختراق" ولمقاومة "أخونة الدولة". وهو واقع أدّى إلى فرض مسافة بين التمثيل السياسي أو الشعبي من جهة، وبين التحكم في أجهزة الدولة وضمان ولائها من جهة ثانية
كنا
قد أكدنا في أكثر من مقال سابق على زيف الادعاءات التي تتغنى بنجاح الانتقال
الديمقراطي السياسي في تونس، كما أننا قد أثبتنا تهافت بل استحالة أي مشروع
للانتقال الديمقراطي الاقتصادي في ظل هذه الوضعية. ونحن نضيف هنا أن أحد الأسباب
الجوهرية لفشل المشروع الديمقراطي في تونس هو تحوّل
اتحاد الشغل إلى قوة سياسية في
خدمة المنظومة القديمة وورثتها. فهل كان التجمعيون (أو من يسمون أنفسهم بـ"الدساترة")
ومعهم حلفاؤهم في اليسار الثقافي؛ سيجدون أفضل من الاتحاد لتدمير تجربة "الترويكا"
وشيطنتها، والحال أنها أول تجربة تونسية يتحالف فيها الإسلاميون والعلمانيون بعيدا
عن منطق النفي المتبادل ومفردات الحرب الوجودية؟ وهل كان التحالف الشيو- تجمعي
سيجد أفضل من الاتحاد للتمهيد لعودته إلى مركز السلطة بآليات الديمقراطية ذاتها
وبدعم شعبي كاسح؟ بل هل كان "محور الثورات المضادة" سيجد حليفا أفضل من
الاتحاد لشيطنة الثورات العربية ودعم الأنظمة الاستبدادية من جهة، ولحماية مصالحه
الاقتصادية والثقافية في تونس من جهة أخرى؟
لو
أردنا تفكيك خطاب اتحاد الشغل والبحث في مفرداته الأساسية بعد الثورة لوجدنا أنه
مجرد إعادة إنتاج أمين لخطاب الحزب الحاكم وأذرعه الأيديولوجية والأمنية زمن
المخلوع. فـ"خيمة تونس" هي في الحقيقة خيمة "العائلة الديمقراطية"
لا خيمة كل التونسيين، وهي تستصحب بلا مواربة منطق إقصاء الإسلاميين بحجة الخوف من
"الاختراق" ولمقاومة "أخونة الدولة". وهو واقع أدّى إلى فرض
مسافة بين التمثيل السياسي أو الشعبي من جهة، وبين التحكم في أجهزة الدولة وضمان
ولائها من جهة ثانية.
فالإسلاميون
بالنسبة إلى المركزية النقابية وهياكل الاتحاد المختلفة هم "خطر" يهدد
الدولة والمجتمع المدني، ولذلك تعامل الاتحاد معهم بمنطق التجمع والأجهزة الأمنية،
وحرص على تعويضهما وتأدية دورهما في كل الملفات المتعلقة بـ"جبر الضرر"
ورد الاعتبار، وتجاوز منطق الإقصاء والتمييز السلبي على أساس "الهوية"
منذ المرحلة التأسيسية.
الإسلاميون بالنسبة إلى المركزية النقابية وهياكل الاتحاد المختلفة هم "خطر" يهدد الدولة والمجتمع المدني، ولذلك تعامل الاتحاد معهم بمنطق التجمع والأجهزة الأمنية
بحكم
سيطرة العقل "الوطدي" (العائلة الوطنية الديمقراطية ذات التاريخ المعروف
في خدمة نظام المخلوع أمنيا وإعلاميا وثقافيا) على المركزية النقابية من جهة، وعلى
مشروع "الديمقراطية القاعدية" من جهة ثانية، لم يكن من المستغرب أن يصطف
الاتحاد خلف "تصحيح المسار" منذ أيامه الأولى. فالحليف الموضوعي واحد
(النواة الصلبة للمنظومة القديمة ومحور الثورات المضادة)، والعدو واحد (الإسلام
السياسي والديمقراطية التمثيلية التي تهدد مصالح الكليبتوقراطية واللوبيات الأيديولوجية).
ولذلك
وجدنا أن "تصحيح المسار" حرص على تحميل المسؤولية عن "العشرية
السوداء" للنخب السياسية وللأجسام الوسيطة كلها ما عدا "الشريكين
الاجتماعيين"، أي اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف. وفي مقابل ذلك حرص الاتحاد على
اختزال منظومة الحكم في حركة النهضة لتبييض حلفائه في "العائلة
الديمقراطية" (ورثة التجمع واليسار الثقافي)، وكذلك لتبرئة الرئيس من أي دور
في الانسداد السياسي الذي مهّد لإجراءات 25 تموز/ يوليو.
إننا
أمام "تمييز إيجابي" في الاتجاهين، وهو تمييز يجد علته في الدور الحقيقي
الذي يلعبه الطرفان -بعيدا عن ادعاءاتهما الذاتية- في خدمة النواة الصلبة للمنظومة
القديمة ورُعاتها الإقليميين والدوليين.
لقد
أكد انقلاب 25 تموز/ يوليو أن الدور السياسي للاتحاد العام
التونسي للشغل ليس دورا أصليا، بل هو دور ثانوي أقرب ما يكون إلى الوكالة أو
التعويض. فهو يتضخم عند ضعف الواجهات السياسية للمنظومة القديمة (كما حصل في
المرحلة التأسيسية وزمن الترويكا)، ولكنه يتقلص عند اشتداد عود تلك المنظومة (كما
حصل في عهد التوافق وكما يحصل الآن في عهد "تصحيح المسار").
"العشرية السوداء" و"تصحيح المسار" يخبراننا بأن الاتحاد كان في الحد الأدنى حليفا موضوعيا لأي مشروع انقلابي مجهض، وفي الحد الأقصى جزءا من "الغرف المظلمة" التي مهدت لـ25 تموز/ يوليو وساندتها -وما زالت- في حربها المفتوحة على تعددية الوسائط بين الشعب ومؤسسات الدولة
فأين
تلك المخاوف على مدنية الدولة في ظل دستور يتحدث عن مقاصد الشريعة ويسند تأويلها
للرئيس والمؤسسات التي يتحكم فيها؟ وأين تلك المخاوف من "الاختراق" أمام
مشروع يعلن أنه يحمل نخبه البديلة؟ بل أين الدور الاجتماعي للاتحاد في ظل حكومة
تسارع إلى إرضاء صندوق النقد الدولي وتمده بالمقترحات حتى قبل أن يعرضها (مثل
مقترح بيع بعض المنشآت العمومية كما ذكرت المسؤولة الأولى عن الصندوق)؟ وأين
"السيادة الوطنية" التي طالما اتهم الاتحاد خصومه بتهديدها في ظل منظومة
حكم تصرّ على تأبيد وضعية التبعية البنيوية للجهات المانحة داخليا وخارجيا؟
إنها
أسئلة قد يكون من الغباء أن ننتظر إجابة من المركزية النقابية عنها، فما يعنينا هو
أن تطرحها مكوّنات المعارضة الجذرية للانقلاب، تلك المكوّنات التي ما زالت تعتبر
الاتحاد -بقياداته وأيديولوجياته المهيمنة وبانحيازاته المعروفة بعد الثورة وبتموقعه
الحالي- جزءا من الحل للأزمة السياسية وشريكا اجتماعيا موثوقا لبناء المشترك
الوطني في ظل نظام ديمقراطي صلب. والحال أن "العشرية السوداء"
و"تصحيح المسار" يخبراننا بأن الاتحاد كان في الحد الأدنى حليفا موضوعيا
لأي مشروع انقلابي مجهض، وفي الحد الأقصى جزءا من "الغرف المظلمة" التي
مهدت لـ25 تموز/ يوليو وساندتها -وما زالت- في حربها
المفتوحة على تعددية الوسائط بين الشعب ومؤسسات الدولة، أي ساندتها في مشروع مركزة
السلطة وضرب كل الأجسام الوسيطة وتدجين المؤسسات واستلحاقها واقعيا بقصر قرطاج
ومِن ورائه بمحور الثورات المضادة.
twitter.com/adel_arabi21