انطلقت فعاليات الدورة الحالية لـ «كأس العالم» التي تقام بدولة قطر، وهي المرة الأولى التي تستضيف دولة عربية هذا السباق الدولي. وقد تزامن ذلك مع الإعلان عن اتفاق حول المناخ بسقوف أقل من المتوقع في نهاية قمة شرم الشيخ، وعلى خلفية انتقاد رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم الغرب لازدواجية معاييره ومواقفه إزاء دولة قطر.
وقد بذلت الدوحة جهودا كبيرة لإقناع منظمة «فيفا» بإقامتها على أراضيها، برغم وجود معارضة قوية من جهات عديدة. أغلب الاعتراضات كانت بدوافع سياسية بحتة، من جهات هالها أن تستضيف واحدة من أصغر الدول العربية أكبر تنافس دولي في أكثر الرياضات انتشارا وشعبية.
واستمرت الاعتراضات حتى الآن، بل تتواصل دعوات البعض للانسحاب من الدورة حتى بعد افتتاحها. صحيح أن الدورة السابقة التي أقيمت في العام 2018 في روسيا تعرضت هي الأخرى لانتقادات ودعوات للمقاطعة لأسباب سياسية بحتة، فإن الاعتراضات هذه المرة كانت بدوافع أيديولوجية تارة ودينية أخرى وسياسية ثالثا. ومنذ البداية، سعت الدوحة للرد على أغلب الاعتراضات الفنية التي كان من أهمها ارتفاع درجات حرارة الطقس في شهري يونيو ويوليو (حزيران وتمّوز)، وهي الفترة التي تقام الدورة فيها عادة، وحصلت على موافقة منظمة «فيفا» لعقدها هذا الشهر، بعد أن اعتدل الطقس ولم يعد معوّقا للرياضيين. ولكن ذلك لم يُنه السجال والجدل بدعاوى كثيرة، قد يكون لبعضها معنى ولكن أغلبها مفتعل. فما إن بدأت الحكومة القطرية في الاستعدادات للدورة كبناء الملاعب والصالات الرياضية والفنادق والمنتجعات لاستقبال قرابة المليون شخص من الوفود واللاعبين والمشجعين، حتى بدأ الهمز واللمز تحت عناوين شتى، كان من أهمها حقوق العمال المشاركين في عمليات البناء. وقد أنفقت دولة قطر أكثر من 20 مليارا لعمليات الإنشاء والاستعدادات الإعلامية والمعيشية لهذه الدورة.
في يوم الخميس 3 ديسمبر (كانون الأول) 2010، أعلن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وهو السويسري جوزيف بلاتر، بعد تصويت أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد في زيوريخ، أن روسيا ستنظم كأس العالم لكرة القدم عام 2018، وقطر في العام 2022، لتفوز بذلك على منافسيها الولايات المتحدة وأستراليا وكوريا الجنوبية واليابان. وعلى الفور صرح الأمين العام للجنة الأولمبية القطرية الشيخ سعود بن عبد الرحمن أن قطر تضع بذلك «كرة القدم الشرق أوسطية على خارطة العالم». ذلك القرار الذي اتخذ قبل اثني عشر عاما، أثار الكثيرين الذين ما برحوا يرفعون أصواتهم لحرمان هذا البلد الخليجي من ذلك. فمن هم معارضو إقامة الدورة في قطر ولماذا؟ هناك عدد من الأطراف المتحسسة جدا لعدم السماح لها باستضافة الدورة الحالية من كأس العالم، ولدى كل منها دوافعه وأساليبه في التعبير عن ذلك التحسس، ومن هذه الأطراف ما يلي:
أولا: الجهات التي تشعر بالغبن إزاء القرار المذكور، وتشمل الدول التي استشاطت غضبا لقدرة قطر على إقناع الجهات الدولية المنظمة خصوصا «منظمة فيفا» باختيارها، من بين دول عديدة كانت متحمسة لاستضافة الدورة. هذه الدول احتفظت بغضبها منذ اتخاذ القرار، وسعى بعضها لعرقلة الاتفاق، وكان حتى وقت قريب يدعو لإلغائها أو نقلها إلى بلد آخر بذرائع شتى. كما أن هناك دولا عربية ساهمت في الحملة الشديدة بسبب خلافاتها السياسية مع هذه الدولة الخليجية، التي كانت سياساتها منذ ثلاثة عقود مثيرة للجدل.
وقد ساهم في ذلك عدد من الأمور:
أولها: الخلاف الحدودي مع المملكة العربية السعودية بشأن مركز الخفوس الحدودي، الذي اندلع في العام 1992، وكانت تلك الحادثة مفصلا في علاقات البلدين.
ثم جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 1996 ضد أميرها السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، التي اشتركت فيها أطراف داخلية وخارجية عديدة، وساهمت في زيادة تعكير العلاقات الخليجية.
ثم أطلقت قطر قناة «الجزيرة» التي كانت نقلة نوعية في الإعلام العربي، حيث اخترقت ما كان مرسوما من خطوط حمراء في السياسات الإعلامية العربية، وللمرة الأولى وجدت المعارضات العربية مجالا للظهور الإعلامي غير المسبوق. فكانت بذلك مفاجأة غير متوقعة بمنطقة لم تعهد الانفتاح الإعلامي، ولم تسمح بحرية التعبير إلا في نطاق محدود جدا. هذه التطورات جميعا، ساهمت في بلورة مواقف عربية تتحسس كثيرا من السياسات القطرية، ومن المؤكد أنها لم تكن متحمسة لاستضافتها الدورة الحالية من كأس العالم.
ثانيا: الدول التي كانت تنافس من أجل الفوز باستضافة الدورة وشعرت بالتحسس من فوز قطر بها. هذه الدول تشعر بقدر من المرارة لما تراه من تداول إعلامي واسع لأخبار كأس العالم، وما تحظى به قطر من اهتمام إعلامي لم يكن ليتحقق بدون هذه الاستضافة. وجاء خيار اللجنة مفاجئا من حيث استبعاد المرشحين الأوفر حظا: إنكلترا، منشأ كرة القدم، لكأس 2018. والولايات المتحدة ذات الإمكانات الهائلة، لكأس 2022. وعلى مدى الاثني عشر عاما الأخيرة عمدت وسائل الإعلام في هذين البلدين بشكل خاص، لإثارة الشكوك حول القرار ودوافعه، مشيرة إلى أسباب عديدة، ومستهدفة بشكل خاص رئيس فيفا، جوزيف بلاتر. وأدى هذا الاستهداف، بالإضافة لأسباب أخرى لمحاكمة بلاتر وميشال بلاتيني الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي للعبة (ويفا)، بتهم سوء الإدارة وإساءة الأمانة والتزوير. ولكن المحكمة الجنائية الفيدرالية السويسرية، حكمت في 8 تموز/يوليو الماضي ببراءتهما من تلك التهم. هذا لا يعني عدم وجود فساد مالي وإداري في هذه المؤسسات الدولية، ولكن لم يثبت شيء من ذلك الفساد في قضية منح قطر حق استضافة الدورة الحالية.
ثالثا: هناك جهات عديدة لديها أجندات سياسية وأيديولوجية لا تتلاءم مع ثوابت الدول الإسلامية، ولم يكن مفاجئا التنقيب العميق في هذه القضايا لإثارتها؛ بهدف إحداث بلبلة من أجل استغلال الدورة لاستهداف قطر. وكانت المجموعات المثلية التي نشطت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في مقدمة الكتل التي خططت لمقاطعة الدورة والتشويش عليها. وحدثت مساع حثيثة لاستفزاز المسؤولين القطريين، برغم تأكيداتهم أنهم لن يتعرضوا لزوار بلدهم برغم الاختلافات الدينية والأيديولوجية والأخلاقية. وأكد ناصر الخاطر، الرئيس التنفيذي لبطولة كأس العالم في قطر 2022، أنه «لن يتعرض أحد لأي كان» في رسالة للجهات التي تصدرت المشهد بهدف التشويش.
رابعا: أما منظمات حقوق الإنسان، فقد كان لها نصيب الأسد في الحملة على قطر. ابتدأت هذه الحملة منذ أكثر من عامين تحت شعار حماية حقوق العمال الأجانب الذين يشاركون في بناء المنشآت الرياضية لاستضافة كأس العالم. هذه الحملة كانت تهدف لإثارة الفرق الرياضية وداعميها من دول ومنظمات لمقاطعة الدورة، أو المطالبة بنقلها إلى بلد آخر بدعوى امتهان حقوق أولئك العمال. وكانت الدوحة واعية لذلك، فأدخلت تشريعات كثيرة لحماية حقوق العمالة الوافدة. وتطالب منظمة العفو الدولية الفيفا وقطر بالالتزام علنا بـ «إنشاء برامج إصلاح من أجل توفير سبل الانتصاف من جميع الانتهاكات المتعلقة بالتحضير لبطولة كأس العالم وإقامتها، وإلى تمويل برامج لمنع وقوع المزيد من الانتهاكات». وقالت؛ إن كلا من فيفا وقطر يجب أن يعملا جنبا إلى جنب مع الآخرين؛ بمن في ذلك العمال والمجتمع المدني، والنقابات العمالية، ومنظمة العمل الدولية لتحديد تفاصيل البرنامج وتنفيذه. وما أكثر ما قيل عن الانتهاكات، وما أعلى الأرقام التي طرحت عن وفاة الآلاف منهم بسبب ظروف العمل التي وصفت بالقاسية، ولكن احتجاجات الدوحة ضد هذه الأرقام قلّصها كثيرا.
إن التداخل بين السياسة والرياضة أمر قديم ـ جديد. وما الحملة على الدولة المضيفة إلا أحد التجليات الواضحة لتسييسها. كما أن تحويل الرياضة (خصوصا الدورات الأولمبية وكأس العالم) إلى سوق تجارية عملاقة يقلل، هو الآخر، من شأنها، ويفتح دوائر استغلالها حتى تحوّلت إلى مشاريع عملاقة تضاهي في حجمها أسواق السلاح والنفط. ويكفي الإشارة إلى أن قطر أنفقت على الاستعدادات لاستضافة كأس العالم أكثر من عشرين مليار دولار. صحيح أنها ستسترجع بعضها من عائدات الدورة، إلا أن المصاريف العملاقة، تؤكد رجحان الجوانب التجارية والسياسية على الرياضة مشروعا وروحا وممارسة.
وأخيرا، لا بد من الاعتراف بأن قطر أظهرت حتى الآن قدرات إدارية وسياسية كبيرة في مواجهة استفزازات وحملات مضادة سياسية وأيديولوجية وأخلاقية لم يكن لها نظير من قبل، وكان افتتاح الدورة بمستوى راق من حيث الإعداد والإخراج. والأمل أن تصبح الرياضة الحقيقية، وليس المسيّسة والتجارية والمؤدلجة، ممارسة حقيقية للبشر، عندها ستحقق رسالتها وكذلك شعارها القديم ـ الجديد: «العقل السليم في الجسم السليم».
(القدس العربي)