يسرق كأس العالم العالمَ من نفسه فيتفرغ له وتتوقف أشغال كثيرة، حتى كأنها
حالة شلل فكري وعاطفي وعملي. هذه المرة جلبت
قطر لنفسها تركيز العالم، ولم يربكها
حجمها الجغرافي بين الدول، ونظن أنها جعلت الدول ذات المساحة تحس بالخزي. سنتحدث
عن الحالة القطرية بين العرب ونجري المقارنات الموجعة، أحدهم قال جملة سياسية ستظل
علامة في التحاليل السياسية: "لم يحمل القطريون ويعني حكام قطر أموالهم إلى
سويسرا بل صنعوا من بلدهم سويسرا". ولولا اختلاف المناخ لكان قوله خلاصة علمية.
لن نجعل من هذه الورقة إضافة كميّة لمن يعبر عن انبهاره بقطر في هذه اللحظة
التاريخية وفيهم كثير مأجور، لكنني سأقف قليلا عند علاقة
التونسيين بقطر منذ
الثورة، خاصة وقد انكشفت مواقف كثيرة خلال دورة كأس العالم.
انقسام حول قطر
التونسيون إزاء قطر صفان؛ أحدهما معجب ومناصر والآخر ساخر وهازئ ومعاد،
ولكن الصفين يقفان على باب الدوحة طلبا لعقد عمل. وإذا كان المناصرون قد منحوا
لأنفسهم حقا في قطر(هم) دون عِلم قطر، فإن العجب فيمن يرى قطر وسياساتها دولة
رجعية متخلفة وخاضعة للأجندة الأمريكية ولكنه لا يستنكف أن يقف على بابها. هؤلاء
الذين يأكلون الغلّة ويسبون الملة منزعجون هذه الأيام من الموقف الأخلاقي القطري
الذي فرضته على زوارها من الغربيين؛ بخصوص رفض تمرير
شعارات المثليين وبخصوص تنظيم
بيع الخمور في غير أماكنها. إنهم ليسوا مثليين وقد يكونون ممن ينفر من الخمور، لكن
موقفهم يأتي في سياق رفض أوروبا عامة وفرنسا خاصة لما فرضته قطر على زوارها. إنه
رفض غير نابع من موقف خاص، بل هو صدى يكشف عجزا عن بناء موقف، لذلك يتبنى ويروج
موقفا ليس له بل يتخذه وسيلة حربية دون أن يكسب من حربه ناقة ولا جمل. الصورة عند
هؤلاء تختصر كما يلي:
التونسيون إزاء قطر صفان؛ أحدهما معجب ومناصر والآخر ساخر وهازئ ومعاد، ولكن الصفين يقفان على باب الدوحة طلبا لعقد عمل. وإذا كان المناصرون قد منحوا لأنفسهم حقا في قطر(هم) دون عِلم قطر، فإن العجب فيمن يرى قطر وسياساتها دولة رجعية متخلفة وخاضعة للأجندة الأمريكية ولكنه لا يستنكف أن يقف على بابها
قطر دولة رجعية يحكمها الإخوان المسلمون الذين هم مصدر التخلف والرجعية في
العالم، وما الموقف من المثلية والخمور إلا تعبيرا عن موقف الرجعية الدينية التي
تود فرضها على العالم العربي وغير العربي، معادية بذلك كل تعبيرات التقدم والحرية.
هذا الموقف يختصر دورة كأس العالم في الموقف الأخلاقي القطري، فيحول
النشاط الدعوي
الموازي للدورة إلى تسييس للرياضة وإخراجها من سياقها الرياضي، متغافلين عن أن
التعبير عن الميول المثلية وفرضها بدوره نشاط سياسي يستعمل اللعبة لفرض رؤيته. هذا
الموقف ليس إلا ما تحب فرنسا أن تسمعه في تونس ومن نخبتها التي ربتها على هواها.. إنه
ليس موقفا شعبيا تونسيا، إنه موقف مملى من السفارة الفرنسية على أصدقائها أو
صنائعها في الإعلام التونسي.
أحباب قطر يحبون قطر أكثر من أهلها
في مواجهة أعداء قطر يقف صف متماسك جدا في تونس لحماية قطر من هجوم كاسح،
فكل ما فعلته قطر سليم وأخلاقي وموافق لشريعة الإسلام. إنهم يخرجون عن الحديث عن
الدورة إلى حساب عدد الذين اعتنقوا الإسلام في الدورة، جاعلين من الموسم الكروي
غزوة بدر الكبرى. لقد حولوا الموسم إلى موسم دعاية دينية لا نعلم إن كانت قطر
الرسمية قد نظمتها فعلا أم أنها خدمة غير رسمية سمح لها بالتواجد، فانتشرت لتحول
الأنظار عن الموضوع الأصلي إلى آخر ثانوي وتفرض على الدولة المضيفة أن تتحول إلى
قاعدة دعاية دينية.
لقد تم الاستيلاء على الدورة الكروية وقد تمت الاستفادة بكل ذكاء من الموقف
الغربي في
موضوع الخمور والمثلية ليفسر كموقف عدائي يبرر كل الدعوة الدينية بلهجة
حربية (كفر مقابل إيمان أو إسلام مقابل مسيحية). لو تحولت الدورة إلى مناسبة حربية
ماذا يبقى لمن نظمها من دعوته للسلام والمحبة، وهي الرسائل التي أطلقها في يوم
الافتتاح؟
دفاع عشاق قطر عن قطر ليس محبة صافية، بل أراه يستولي على قطر لصالح أمر
أكبر لا أعلم إن كانت قطر الرسمية تريده لنفسها أو تسعى إليه بسياستها. هل لقطر
القدرة لتتحول إلى قاعدة انطلاق الدعوة من جديد؟ هل يراد لها أن تكون يثرب
الثانية؟ (هل يسمح لها دوليا بذلك؟) لا ننسى أنها بلد تجار اللؤلؤ قبل أن تكون
بلاد دعوة. الذين يحسبون عدد من ينطقون الشهادة بالرأس يسعدون بالإسلام الكمي
(الأفواج) ويغفلون عن أن العدد يحسب في الغثاء.
أفلح حكام قطر في التصرف في ثروتهم دون شعارات قومية لم تغن من رفعها بل أفقرته. وهذه الدورة الكروية العالمية هي علامة نجاح اقتصادي وسياسي؛ سمحت لقطر بمكانة دولية وستخول لها الجلوس مع كبار اقتصاد العالم، لا يعوقها في ذلك حجمها الجغرافي الصغير
لكن بعض المقارنات مفيدة
ماذا فعلت قطر بثروتها في ترابها الوطني وخارجه؟ الكتابة عن حالة النجاح
ليست إضافة كمية للدعاية بل إقرار حقائق موضوعية. قطر آخر دولة في ترتيب من اكتشفت
لديها الطاقة الأحفورية (غاز ونفط) مقارنة بالجزائر وليبيا والعراق والسعودية، لكن
عندما نرى الخراب الفاجع الذي تركه القذافي في ليبيا لا نملك إلا أن نعجب بما فعل
القطريون بثروتهم، وعندما نرى الجزائر الأغنى والأقوى جغرافيا وبشريا تستجدي
الاستثمارات القطرية لا نملك إلا أن نعبر عن الأسف للبؤس الذي يعيش فيه المواطن
الجزائري. أين ثروة الجزائر وثروة ليبيا؟ وثروة العراق؟ لقد بددها حكام أغبياء
ومرضى، حتى أن جيش الرب الأوغندي نال منها قسطا كبيرا.
من هذه الزاوية أفلح حكام قطر في التصرف في ثروتهم دون شعارات قومية لم تغن
من رفعها بل أفقرته. وهذه الدورة الكروية العالمية هي علامة نجاح اقتصادي وسياسي؛ سمحت
لقطر بمكانة دولية وستخول لها الجلوس مع كبار اقتصاد العالم، لا يعوقها في ذلك
حجمها الجغرافي الصغير. وفي هذا العالم المعولم حيث الرساميل الطيارة، لا نراها
تحتاج إلى بناء نهضة صناعية كلاسيكية في حيزها الجغرافي، لكن صناديقها الاستثمارية
ستجعل منها دولة صناعية في أي مكان ترغب فيه. لقد كشفت عن قدراتها التسييرية وهي
ضمانة يمكن تسويقها لبناء شراكات جبارة خارج الحدود. لا نظن أن هزيمة الفريق
العنابي كما يحلو للقطريين وصف فريقهم سيكون لها تأثيرها اقتصاديا، نظن أن دورة كرة
القدم ستكون ولادة دولة قطر العالمية أو متجر اللؤلؤ العالمي. ونختم بخالص الدعاء
بالصبر للجمهور التونسي المسكين.