على ذمة وسائل إعلام غربية يفترض أنها محترمة، فإن
قطر تستضيف عشرات الآلاف في فنادقها، وتتحمل نفقات تذاكر حضورهم المباريات في سياق مونديال 2022، بل إن بي بي سي التي تزعم أنها الأكثر مصداقية بين تلك الوسائل، مضت إلى أبعد من هذا وقالت إن قطر تحشد العمال الآسيويين قسرا في الساحات لإعطاء الانطباع بأن المونديال اجتذب أعدادا هائلة من البشر، ضاقت بهم الملاعب، ثم تكفل منتخب ألمانيا المشارك في المونديال بتغذية تلك الوسائل بذخيرة تطلق بها النيران على قطر، حينما وقف أعضاؤه في منتصف الملعب قبل بداية مباراتهم مع اليابان، وأيديهم على أفواههم للتدليل على أن قطر منعتهم من ارتداء شعار المثلية الجنسية على أذرعهم (وأخزاهم الله فوضعوا أيديهم على أفواههم خجلا بعد أن هزمتهم اليابان).
على الأرض ـ أرض قطر، فإنني وكشاهد عيان "شايف كل حاجة"، أرى بعيني أن الأمور تسير بغير ما تشتهي وسائل الإعلام
الغربية، فلا امرأة بين مئات الآلاف من النساء اللواتي يجسن الشوارع والساحات حتى ساعات الفجر الأولى يوميا تعرضت للتحرش ولو باللفظ، ولم يحدث قط أن وحوش الملاعب الأوروبية، والمشهود لهم بممارسة أقصى درجات العنف، تحرشوا ببعضهم البعض كما فعلوا في المونديالات السابقة، ولم ينتج ذلك لأنهم استقاموا وعادوا إلى جادة الصواب فجأة، ولكن لأن قطر منعت تناول الكحول في الملاعب وقبل وبعد المباريات، ولكن عين السخط الغربية "التي تبدي المساويا" رأت في ذلك اعتداء على الحريات من جانب قطر، يضاف إلى تحريمها وتجريمها للواط، ومعلوم أن الحكومة البريطانية وحدها منعت 1308 من مواطني إنجلترا وويلز من السفر إلى قطر، بمصادرة جوازات سفرهم (ولم تعتبر الصحف البريطانية التي نقلت هذا الخبر في ذلك حرمانا لمواطنين من حق إنساني أساسي، بينما هو كذلك بموجب المواثيق والبروتكولات الكثيرة التي وقعت عليها بريطانيا).
خلال مونديال 2010 الذي أقيم في جنوب أفريقيا تم وضع 3200 من مشجعي كرة القدم الإنجليز في قوائم اتحاد كرة القدم الدولي (فيفا) السوداء، بينما كان عدد المدرجين في تلك القوائم 2200 خلال مونديال البرازيل عام 2014، و1200 خلال مونديال روسيا في عام 2018، وتقول جمعية حماية الطفولة البريطانية إن بريطانيا شهدت أكثر من ألف حالة عنف تستهدف الأطفال خلال مونديال روسيا لأسباب تتعلق بمجريات المباريات، بينما تقول صحيفة غارديان البريطانية إن حوادث العنف بشكل عام ارتفعت في بريطانيا بنسبة 60% خلال الأيام القليلة الماضية مقارنة بالفترة التي تقابلها من العام الماضي (ويحدث هذا من قبل البريطانيين البعيدين عن أرض قطر، وفي وقت لم تخسر فيها إنجلترا أو ويلز أي مباراة في مونديال قطر حتى الآن).
أما ألمانيا التي ذرف فريقها الدموع لأن قطر تحظر الشذوذ الجنسي، وتعتبر ذلك تعديا على الحريات الشخصية، بينما هي البلد الذي يحتضن أشرس تنظيم يعادي مثليي الجنس، وهم النازيون الجدد الذين يريدون إحياء تراث كبيرهم الذي علمهم الغدر أدولف هتلر، فقد لعب نادي كولون الألماني مباراة في فرنسا ضد نادي نيس، في أيلول/ سبتمبر الماضي، ومن باب إثبات الوجود اجتاح نحو ألف من مشجعي نادي كولون أرض الملعب، وتأخرت صافرة البداية 55 دقيقة ولم تطلق إلا بعد وفود قوات مكافحة شغب بأعداد هائلة.
خلال موسم 2021 ـ 2022 الكروي في بريطانيا شهدت 55% من المباريات أحداث عنف دامية، وتعرضت الملاعب لاجتياح الجماهير 441 مرة، وخلال مباريات جرت في إنجلترا وويلز تم اعتقال 2198 شخصا بسبب ضلوعهم في أعمال عنف.
هناك على أرض قطر حاليا ما يربو عن مليون شخص، بينهم عشرات الآلاف من الأوربيين وفدوا إليها لمتابعة مجريات المونديال، وبينما زهاء 120 ألف شخص يتابعون المباريات من داخل الملاعب يوميا، فإن هناك ما يربو عن 200 ألف شخص يفترشون الحشيش الأخضر متناغمين، في ساحات رحبة الاتساع تم تزويدها بشاشات عملاقة لنقل المباريات حية لمن لم يتمكنوا من الحصول على تذاكر إما لنفادها أو لضيق ذات اليد.
ولك أن تعجب لقوم بهذه الهمجية ينصبون أنفسهم أوصياء على أخلاق وسلوكيات الآخرين، ويريدون أن يفرضوا على قطر معاييرهم وقيمهم المعتلة والمختلة، لأنهم يعتبرون أنفسهم ممثلين لـ "العالم" وأوصياء على شعوبه، وأنهم الأحق بكأس العالم لكرة القدم، ويغذي ذلك الاستعلاء أن الأوربيين هم فعلا أصحاب اليد العليا في الفيفا ويكفي أنهم ممثلون في
كأس العالم بـ12 منتخبا مقابل 4 لأمريكا اللاتينية و4 لآسيا و5 لأفريقيا.
هناك على أرض قطر حاليا ما يربو عن مليون شخص، بينهم عشرات الآلاف من الأوربيين وفدوا إليها لمتابعة مجريات المونديال، وبينما زهاء 120 ألف شخص يتابعون المباريات من داخل الملاعب يوميا، فإن هناك ما يربو عن 200 ألف شخص يفترشون الحشيش الأخضر متناغمين، في ساحات رحبة الاتساع تم تزويدها بشاشات عملاقة لنقل المباريات حية لمن لم يتمكنوا من الحصول على تذاكر إما لنفادها أو لضيق ذات اليد.
تعيش قطر حاليا تجربة لا أحسب أن أي دولة احتضنت المونديال عاشتها من قبل، وهي أن تكون مسرحا لوقائع مبهجة تندمج فيها الشعوب متخطية حواجز اللغة واختلاف الملل والنحل، (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وليس لتعاركوا، فأينما توجهت في العاصمة القطرية الدوحة تجد الأهازيج والموسيقى الصادحة وتطالعك الوجوه الباسمة والضاحكة، ورغم الضغط البشري الهائل على المرافق والشوارع فلا اختناقات مرورية، لأن أساطيل القطارات والحافلات تعمل بإيقاع متوافق عليه، وبلاغات الجرائم والجنح تكاد تكون صفرية لأن الفرح والمرح ينتقل بين الناس بـ "العدوى"، فتنتفي الروح العدائية بين جماهير الفرق المتنافسة، وأينما ذهبت تطالعك الدهشة في وجوه الوافدين على قطر حديثا، خاصة عند أولئك الذين تغذوا على الصورة النمطية للعربي في وسائل الإعلام الغربية (كائن متخلف وشرس لا يعرف المرح).
منذ الساعة الرابعة عصرا بالتوقيت المحلي تصبح مدينة الدوحة مسرحا لكرنفالات معظمها عفوية، وبعضها مرتب ومدروس، ويخيل إليك أن هناك مايسترو غير مرئي يتحكم في إيقاع حركات الجماهير والفعاليات المصاحبة للمونديال حتى لا يحدث نشاز أو شذوذ، ولكن سيظل الغربيون الذين خسروا حق استضافة المونديال كالثعلب الذي فشل في الوصول إلى عنقود العنب فرماه بالحموضة.