تخوض أنقرة منذ
عقود عملية مكافحة تمرد قاسية وشرسة ضد عناصر "حزب
العمال الكردستاني"
وامتداداته المسلحة عبر الحدود في العراق وسوريا. فمنذ تأسيسه عام 1978 تبنى حزب
العمال الكردستاني أيديولوجية ذات جذور ماركسية ثورية واتبع، نهجاً عسكرياً عنيفاً
لتحقيق هدفه بإقامة دولة قومية كردية مستقلة لاستعادة الجغرافية التاريخية للأمة
الكردية المشتتة في
تركيا وإيران والعراق وسوريا، وشن حزب العمال أولى عملياته
العسكرية في تركيا عام 1984، وقد صنف الحزب منظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي
وتركيا والولايات المتحدة، ووضع على قائمة
الإرهاب
بدأت الحكومة
التركية مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني في العام 2013 سعيا لإيجاد حل للقضية
الكردية، لكن القتال استؤنف بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في العام 2015، وكان
حزب العمال الكردستاني يستهدف قوات الأمن التركية في معظم هجماته، لكنه توسع
لاحقاً باستهداف مدنيين، وغالبا ما يتبنّى تنظيم "صقور حرية كردستان"
التابع للحزب الهجمات في وسط المدن، ففي العام 2016 تبنّت "صقور حرية
كردستان" تفجيرين وقعا أمام استاد في إسطنبول ومتنزه أوقعا نحو 46 قتيلاً.
شكل التفجير
الإرهابي الأخير الذي استهدف إسطنبول في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 وأودى بحياة
ستة أشخاص فضلا عن جرح أكثر من 80 آخرين، محطة جديدة في
استراتيجية مكافحة التمرد
التركية ضد حزب العمال الكردستاني وأذرعه في العراق وسوريا، رغم أن "حزب
العمال الكردستاني" وذراعه السوري المعروف بـ"وحدات حماية الشعب
الكردية" نفى أي مسؤولية عن التفجير، لكن هذا النفي لا تؤيده الوقائع
والتحقيقات.
نهج مكافحة التمرد التركي يستند إلى النسخة الأمريكية الجديدة لمكافحة التمرد بالاعتماد على نهج "استراتيجية عبر الأفق"، بالاعتماد على الضربات الجوية والطائرات المسيرة دون إرسال جنود على الأرض
والاستراتيجية
التركية في التعامل مع حزب العمال الكردستاني وفروعه في العراق وسوريا لا تنطوي
على أي جدة وتغيّر في نهج مكافحة التمرد، فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية بعد نحو
أسبوع على
تفجير إسطنبول، وذلك في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أن قواتها شنت
عملية جوية سمّتها "المخلب- السيف"، ضد مواقع للمسلحين الأكراد في شمالي
سوريا والعراق. ولا شك أن نهج مكافحة التمرد التركي يستند إلى النسخة الأمريكية
الجديدة لمكافحة التمرد بالاعتماد على نهج "استراتيجية عبر الأفق"،
بالاعتماد على الضربات الجوية والطائرات المسيرة دون إرسال جنود على الأرض.
استندت وزارة
الدفاع التركية في بيان إلى أن عملية "المخلب- السيف"، تستند إلى المادة
51 من ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على
الحق المشروع في الدفاع عن النفس، وأن
الهدف من العملية الجوية "ضمان أمن الحدود ومنع أي هجمات إرهابية تستهدف
الشعب التركي والقوات الأمنية، واجتثاث الإرهاب من جذوره، عبر تحييد التنظيمات
الإرهابية، "حزب العمال الكردستاني" وأذرعه في العراق وسوريا.
وكان الرئيس
التركي رجب طيب أردوغان أكد خلال عودته من قطر حيث حضر افتتاح مونديال كأس العالم،
أن عملية "المخلب- السيف" لن تقتصر على "الغارات الجوية"، في
إشارة ضمنية إلى إمكانية ان تشن تركيا
هجوما بريا داخل الأراضي السورية.
في ظل تحولات النظام
الدولي وبروز التعددية القطبية وعودة الصراعات الجيوسياسية بين الدول، وتبدل
الأولويات وتراجع الاهتمام بسياسة الحرب على الإرهاب، والتي كانت مجرد غطاء للتوسع
والهيمنة، لم يعد إرسال جنود على الأرض لمكافحة ما يسمى "الإرهاب" أي
أهمية ودور، وأصبحت "استراتيجية عبر الأفق" هي المعتمدة في حرب مكافحة
التمرد، وهو ما ظهر جلياً في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أطلقها جو
بايدن، وما أكدته استراتيجية الدفاع الوطني الفرنسية التي أعلنها إيمانويل ماكرون،
ولا يبدو أن تركيا تخرج عن الإطار الأمريكي والفرنسي، وتصريحات رجب طيب أردوغان
باحتمالية شن هجمات برية في العراق وسوريا لا تعدو عن كونها دعاية سياسية.
إن السياسة
الخارجية التركية شديدة المحافظة والحذر تاريخياً، ففي ذروة سياسات مكافحة الإرهاب
والتمرد بإرسال جنود خارج الوطن، لم تعمد تركيا إلى استثمار ذلك المناخ الدولي،
فالسياسة الخارجية لأنقرة محافظة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، وهي تقوم على مبدأ
"سلام في الوطن، سلام في العالم" الذي وضعه مؤسس الجمهورية التركية
مصطفى كمال أتاتورك عقب إلغاء نظام "الخلافة العثمانية"، فالفلسفة
الأتاتوركية للسياسة الخارجية انعزالية وشديدة الانكفاء على الذات، ومهددات الأمن
القومي التركي حسب هذه الرؤية المهيمنة ذات طبيعة ذاتية داخلية وهي ما يهدد كيان
الدولة ووجودها، فالحفاظ على السلم والأمن الداخلي هو المعيار المحدد للسياسة
الخارجية,
لم تخرج تركيا عن
سياستها الخارجية المحافظة سوى في حالات نادرة، وشكّل التدخل العسكري في قبرص عام
1974 الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة، وتحركت بشكل محدود في سوريا عقب سحب نظام
بشار الأسد قواته من المنطقة الحدودية الشمالية لسورية بهدف صرف انتباه تركيا عن
محاولة الإطاحة بنظامه، عندما سارعت "وحدات حماية الشعب" الكردية إلى
الاستيلاء على تلك المناطق ذات الغالبية الكردية، حيث باتت أولوية تركيا ومهمتها
الرئيسية في سورية منع تشكل كيان سياسي أو "ممر إرهابي" كما تسميه أنقرة
على حدودها في سوريا تسيطر عليه الأحزاب المرتبطة بحزب "العمال الكردستاني"
وفي مقدمتها "وحدات حماية الشعب" الكردية.
وقد طرحت أنقرة
فكرة إنشاء منطقة آمنة/ عازلة للمرة الأولى عام 2014، ولم تكف عن محاولة فرضها منذ
ذلك الوقت، لكن الظروف المتغيرة والتحولات المتعاقبة لم تكن تسمح لتركيا بتحقيق
هدفها، فقد كانت تدرك أن محاولتها ستواجه بتحديات سياسية واقتصادية وعسكرية خطيرة إذا
أقدمت على تنفيذ ـأهدافها بصورة أحادية، فالأطراف الرئيسية الفاعلة وخاصة الولايات
المتحدة وروسيا وسوريا وإيران لم توافق على رغبة أنقرة وحذرتها من مغبة الإقدام
على تنفيذ خطتها بشكل أحادي.
رغم تبدل الظروف والأسباب التي منعت تركيا على مدى سنوات من تنفيذ خطتها بالتدخل العسكري وفرض ما تسميه "منطقة آمنة/ عازلة" عند حدودها مع سوريا، في ظل اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية وحالة الاستقطاب الدولي، لم تتجاوز تهديدات أنقرة حدود التصريحات، وكانت عملياتها محدودة وفي إطار التفاهمات مع القوى الدولية والإقليمية
رغم تبدل الظروف
والأسباب التي منعت تركيا على مدى سنوات من تنفيذ خطتها بالتدخل العسكري وفرض ما
تسميه "منطقة آمنة/ عازلة" عند حدودها مع سوريا، في ظل اشتعال الحرب
الروسية الأوكرانية وحالة الاستقطاب الدولي، لم تتجاوز تهديدات أنقرة حدود
التصريحات، وكانت عملياتها محدودة وفي إطار التفاهمات مع القوى الدولية والإقليمية.
ففي ذروة الحرب الروسية على أوكرانيا قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع
برلماني في أنقرة في 1 حزيران/ يونيو 2022 إن "تركيا سوف تبدأ مرحلة جديدة
لتأمين عمق 30 كيلومتراً لحدودها مع سوريا". وأكد على أن "تركيا سوف
تطهر تل رفعت ومنبج من الإرهابيين"، وأضاف: "إننا ننتقل إلى مرحلة جديدة
في عملية إقامة منطقة آمنة من 30 كيلومتراً عند حدودنا الجنوبية. سننظف منبج وتل
رفعت"، ووعد بالعمل "خطوة خطوة في مناطق أخرى". وقال أردوغان:
"سنرى من الذي سيدعم هذه العمليات الأمنية المشروعة بقيادة تركيا ومن سيحاول
معارضتها". وفي تصريحات لاحقة أكد أردوغان أن أنقرة لا تنتظر
"إذناً" من الولايات المتحدة لشن عملية عسكرية جديدة في سوريا، وشدد مع
نظيره الروسي فلاديمير بوتين على "ضرورة" إنشاء منطقة آمنة على طول
الحدود السوريّة- التركيّة.
رغم تعارض
مواقفهما حول موضوع أوكرانيا وملفات أخرى، اتفقت واشنطن وموسكو في دعوتهما تركيا
إلى وقف الهجمات في شمال سوريا وعدم اللجوء إلى عملية عسكرية برية، وقد أردوغان،
الرئيسَ الأمريكي جو بايدن، على هامش قمة قادة مجموعة العشرين في بالي بإندونيسيا،
في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، بحيث أعرب بايدن عن تعازيه الحارة للرئيس أردوغان
وشعب تركيا بسبب أعمال العنف في إسطنبول، وأوضح أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب
حليفتها في الناتو. لكن الموقف الأمريكي يعارض أي تدخل تركي بري في العراق وسوريا،
ولذلك تتهم تركيا الولايات المتحدة بدعم حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية
الشعب، وقد عبّر وزير الداخلية، سليمان صويلو عن رفضه تعزية السفارة الأمريكية إثر
التفجير في إسطنبول، بسبب ما تعدّه الحكومة التركية دعما من الولايات المتحدة
لوحدات الشعب الكردي وقوات "قسد" في شمال سوريا.
كانت الولايات
المتحدة الأمريكية وراء إنشاء الكيان الكردي الجديد الذي يسيطر عليه حزب العمال
الكردستاني تحت مسمى "قوات سوريا الديمقراطية- قسد"، وقد ساعدت أمريكا "وحدات
حماية الشعب" في إنشاء "قوات سوريا الديمقراطية"، وهو تحالف يقوده
الأكراد واعتمدت عليه الولايات المتحدة بشكل كبير لمحاربة تنظيم الدولة منذ عام
2014. وفي البداية، تساهلت أنقرة مع هذه السياسة الأمريكية وحتى شاركت أيضاً في
محادثات السلام مع "حزب العمال الكردستاني". ولكن بحلول عام 2015، انهارت
المحادثات واستأنف "حزب العمال الكردستاني" هجماته داخل تركيا. ونظراً
إلى تنامي "وحدات حماية الشعب" في الوقت نفسه على مقربة من تركيا، أصبحت
أنقرة ترى في تلك الجماعة السورية امتداداً لـ"حزب العمال الكردستاني"
واعتبرتها بالتالي تهديداً وجودياً. وعلى هذا الأساس، شنّ الجيش التركي منذ عام
2016 سلسلةً من العمليات داخل سوريا هدفت جميعها، بصورة كلية أو جزئية، إلى منع
وصول "وحدات حماية الشعب" إلى الحدود.
جاءت العملية الأولى
للجيش التركي في سوريا باسم "درع الفرات" في آب/ أغسطس 2016، وهي عملية
هدفت إلى انتزاع جيب جرابلس من تنظيم الدولة ومنع "وحدات حماية الشعب"
من إحكام قبضتها على طول الحدود، وانطلقت بعد أسبوعين من اجتماع أردوغان مع بوتين
في سانت بطرسبرغ، بعد صفقة بين روسيا وتركيا سمحت لنظام الأسد بالسيطرة على مدينة
حلب. أما العملية الثانية "غصن الزيتون"، فقد أطلقتها تركيا في كانون
الثاني/ يناير 2018، بعد صفقة مع بوتين، استهدفت جيب عفرين الخاضع لسيطرة
"وحدات حماية الشعب"، مقابل السماح لنظام الأسد بالهجوم على الغوطة
الشرقية والاستيلاء عليها، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2019 نفذت أنقرة عملية
"نبع السلام" واستهدفت هذه العملية مناطق "وحدات حماية الشعب"
الواقعة في شمال شرق سوريا بين تل أبيض ورأس العين، وحصلت أنقرة على موافقة الرئيس
ترامب. وأما العملية الأخيرة "
درع الربيع" في شباط/ فبراير 2020 فقد
جاءت بسبب قرار نظام الأسد استهداف القوات التركية في محافظة إدلب، ودون صفقات.
الاستراتيجية التركية لمكافحة التمرد الذي يمثله عناصر "حزب العمال الكردستاني" وامتداداته المسلحة عبر الحدود في العراق وسوريا لا تنطوي على أي جديد، فهذه الاستراتيجية تستند إلى رؤية تركية متجذرة تقوم على نزعة محافظة في تعريف أمنها القومي ومهدداته، وتعتمد على مبدأ الانكفاء والعزلة
خلاصة القول أن
الاستراتيجية التركية لمكافحة التمرد الذي يمثله عناصر "حزب العمال
الكردستاني" وامتداداته المسلحة عبر الحدود في العراق وسوريا لا تنطوي على أي
جديد، فهذه الاستراتيجية تستند إلى رؤية تركية متجذرة تقوم على نزعة محافظة في
تعريف أمنها القومي ومهدداته، وتعتمد على مبدأ الانكفاء والعزلة، وفي ذروة سياسات
محارية الإرهاب التي كانت تعتمد على إرسال جنود في مناطق التمرد، لم تغامر أنقرة
بتغيير نهجها المحافظ، ومع تبدل النهج الأمريكي الجديد بمكافحة الإرهاب والتمرد من
خلال الاستراتيجية عبر الأفق بالاقتصار على الضربات الجوية والطائرات المسيرة دون
إرسال قوات برية إلى الأرض، فإن تركيا تتبع ذات الاستراتيجية.
ولذلك، فإن
العمليات العسكرية التركية في العراق وسوريا سوف تبقى تعتمد على الضربات الجوية،
ولكن مع تكثيف العمليات وتوسيع نطاقها الجغرافي وأهدافها لتطال البنية التحتية
لحزب العمال الكردستاني وأذرعه في العراق وسوريا، إلى جانب تكثيف الحملات الأمنية
في الداخل التركي. ولذلك فإن توسيع نطاق العملية العسكرية التركية في العراق
وسوريا بإرسال قوات برية أمر بعيد الاحتمال، ويتناقض مع المبادئ الكلية للسياسة
الخارجية التركية منذ نشأة الجمهورية.
twitter.com/hasanabuhanya