مجددا في
جدة ومصائبها المتكررة، ذات المأساة منذ عقود
في مرعى صباي التي غادرتها كرها وحسبي الله ونعم الوكيل، أتواصل مع بعض الأقارب
والأصدقاء ولا أصدق ما أسمع..! استهتار بحياة الإنسان إلى أبعد الحدود، وعود بإصلاح
البنية التحتية من دون تنفيذ، كل سنة تتجدد الوعود بإنشاء شبكات تتحمل تصريف
الأمطار، لكن عند عمك طحنا كما يقولون، بلا تنفيذ ولا متابعة، رغم هذه الأرواح التي
تزهق والممتلكات التي تدمر.
يتجدد جرح وكارثة عام 2009، عندما اجتاحت
السيول
المدينة، وأدت إلى مصرع 150 شخصا وأكثر من 400 اعتبروا في عداد المفقودين بحسب إحصاءات
الحكومة نفسها، وتسببت كما حصل أخيرا بجرف مئات السيارات وألحقت أضرارا كبيرة
بعشرات من المنازل في المحافظة الواقعة في غرب الجزيرة العربية. حتى الآن لم تتضح أعداد
الضحايا، ويبدو أننا سنصدم بالأعداد مع التكتم الحكومي حاليا وانشغال الجميع بكأس
العالم!! لكن الفيديوهات التي تصل تظهر تدفق السيول إثر أمطار غزيرة شهدتها
الأحياء السكنية مثل حي النزهة وحي الزهراء وحجم الدمار الهائل الذي طال سيارات
وممتلكات المواطنين، إذ غطت مياه الأمطار البعض منها وجرفت البعض الآخر. وعلت
صرخات المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تطالب بالإنقاذ السريع، محاولين تجاوز
الرعب من المطالبة ولو بأبسط الحقوق!!
وواضح أن الحكومة بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، لم
تحاسب المقصرين في السنوات الماضية، ومحافظ جدة باعتباره من العائلة المالكة يبقى
في منصبه ولن يحاسبه أحد، ومثله أمير مكة، وكما يعلم الجميع فستجير التهم ضد صغار
الموظفين، كما يفعلون دائما!
بالأمس يزعم محافظ جدة الأمير سعود بن جلوى، أن الأمطار
هذه السنة بلغت ١٧٩ ملم، بينما يقول خبراء بالأرصاد إنها لم تتجاوز ٩٠ ملم، هكذا
يفعلون حتى فشلهم يريدون نسبته للطبيعة والأقدار، وفوق ذلك، فالحكومة والقصر الملكي
لم يقدما حتى بيان اعتذار أو مواساة للأهالي، أو تطييبا لأهالي الضحايا والخاسرين، من خلال وعدهم على الأقل بمحاسبة المقصرين.
سيول جدة هي نموذج صغير يتسبب به
الفساد المستشري في
جسد هذا البلد، ومن أهم الأسباب
لهذا السقوط على كل الأصعدة، هو عدم وجود دور للشعب في انتخاب مسؤوليه من أهل
الكفاءة والريادة. وأتساءل ومعي كل عاقل: كيف يعد ابن سلمان بإنشاء نيوم في حين
تعاني جدة كل هذا؟ فهي تغرق من فساد الحاكمين قبل غرقها بالمياه، وهذا الإهمال لأرواح
المواطنين يتجلى إذا عرفنا أن القصور لم تصب بأذى، فقط أحياء السعوديين، وأظن أننا
سنستمر في الغرق على مستوى البنى التحتية، وكذلك شبابنا وبناتنا باتوا يسقطون
اخلاقيا يوما بعد يوم.
ودعوني أضرب مثالا صغيرا: ألا يحقّ للمواطنين في
السعودية
أن يتساءلوا عن نتائج لجنة مكافحة الفساد العليا التي تأسست بأمر ملكي عام 2019،
برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان، والتي نصَّت على إعادة التحقيق في ملف فساد كارثة
سيول جدة بأثر رجعي؟ وبدل أن تتم محاربة الفاسدين والقبض عليهم وسَوقهم إلى
المحاكم ومن ثمَّ إلى الزنازين، يتم التكتم على جرائمهم واختلاساتهم، وربما تكريمهم
وترقيتهم إلى مناصب أعلى، وفي المقابل يُسجَن ويُعاقَب منتقدوهم والمطالبون
بمحاكمتهم، ولا يمر يوم إلا وتخرج إلى العلن فضيحة فساد مدوية مالية أو اخلاقية
وغير ذلك يشيب لها الرأس، لكن القضية إما أنها تندثر بكامل تفاصيلها -مع سبق
الإصرار والترصّد-، أو أن الفاعلين يبقون مجهولين وتُنسى القضية مع تقادم الأيام،
وقد يحصل أن يتم تكريمهم وترقيتهم، وهذا ما حصل مع أمين محافظة جدة السابق عادل
فقيه؛ إذ بدل أن يُعاقَب (فقيه) على كارثة سيول جدة في 2009، والكل أجمع وقتها على
أن الفساد والفشل وسوء التخطيط والإدارة، هو المسبب الأول لها، إلا أن المواطنين
تفاجؤوا بصدور أمر بتعيينه وزيرا للعمل بعد أشهر قليلة من وقوع الكارثة. وكم من
فاسد ومقصّر غيره تمت ترقيته إلى مناصب أعلى بعد اكتشاف فساده وتقصيره! وهذا
الأمر أقل ما يمكن أن يُقال عنه: "تحدٍّ للوطن والمواطن" وتشف بالعباد
وتدمير للبلاد.
jomanajalol@gmail.com