تسلط الكاتبة أليس سبيري، في تقرير لموقع
" ذي
إنترسبت" الضوء على الفيلم الذي أحدث ضجة كبيرة داخل أوساط دولة الاحتلال
الإسرائيلي فيلم "
الطنطورة"، وهو فيلم يجسد أحد أحداث
النكبة الفلسطينية
المروعة.
يتضمن الفيلم مقاطع أرشيفية لم تشاهد من قبل لأحداث النكبة،
ويشتمل كذلك على عملية إعادة بناء باستخدام الوسائل العلمية الحديثة للقبر الجماعي
الذي طمست معالمه منذ وقت طويل وحل محله موقف للسيارات، ولذلك فهو تحقيق فظيع في الذاكرة
والتجربة المؤلمة، بشكل فردي.. ذاكرة وتجربة في حالة صدام مستمر مع سردية لا يسمح بالمساس
بها لبلد أقنع نفسه بأنه قائم على الطهر، تقول سبيري.
وتضيف سبيري أن حكاية أو أحداث أو مذبحة الطنطورة تلك
القرية الفلسطينية قرب حيفا "حكاية لم يتوقف الفلسطينيون يوماً عن روايتها، وإن
كان ثمة ما هو متفرد ومتميز في سماعها من الجناة أنفسهم".
وفي ما يأتي ترجمة التقرير:
تعيش دولة إسرائيل في حالة من الرعب من تاريخها لدرجة أنها
سنت قانوناً في عام 2011 يعاقب كل من يحيي ذكرى يوم تأسيسها باعتباره يوم حزن بدلاً
من يوم يُحتفل به. اشتهر هذا القانون باسم "قانون النكبة"، والنكبة مصطلح
يستخدمه الفلسطينيون لوصف الأحداث التي أفضت إلى تأسيس دولة إسرائيل وإلى تشريدهم من
ديارهم. يسلط القانون الضوء على القلق الوجودي الذي يساور البلاد، والتي لم تبادر حتى
الآن إلى الإقرار بماضيها، رغم أنها لا تزال تعيش تداعياته.
ورواية إسرائيل لحدث ولادتها محبوكة بدقة وتخضع لسيطرة محكمة.
فقبل أن يفتح الجيش أرشيفه الذي يوثق أحداث عام 1948، أصدر بياناً حظر فيه نشر أي من
الوثائق التي تذكر تفاصيل التهجير القسري للفلسطينيين، أو تأتي على ذكر أي من انتهاكات
حقوق الإنسان، بما في ذلك جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، أو أي شيء
من شأنه أن "يضر بصورة قوات الدفاع الإسرائيلية" أو يكشف أنها "مجردة
من المعايير الأخلاقية".
قلة قليلة من الإسرائيليين لديها الاهتمام أصلاً بمعرفة ذلك.
فما الذي حدث في الأيام التي سبقت قيام إسرائيل وخلال الأيام اللاحقة لذلك، وما الثمن
الذي دُفع من أجل أن توجد بلدهم، أسئلة لم تزل أجيال الإسرائيليين ترفض طرحها.
في لقاء قريب لي بمخرج الأفلام الإسرائيلي ألون شوارز، قال
لي: "بالنسبة للإسرائيليين، تقول أسطورة التأسيس إن الفلسطينيين بكل بساطة رحلوا
بمحض إرادتهم. وهكذا تكذب إسرائيل على نفسها".
وحتى في دوائر ما يسمى "اليسار الصهيوني" التي
نشأ فيها شوارز، كان التساؤل عن الأحداث التي جرت في عام 1948 دوماً من المحرمات، كما يشير
هو نفسه. ولذلك فإنه بعد أن أنتج فيلمه الأول عن أحد الناجين من المحرقة، والذي احتفي به
على نطاق واسع داخل إسرائيل –لأنه "تطابق مع الرواية الوطنية" كما يقول–
أراد أن يروي حكاية أخرى، إنها حكاية الفظائع التي ارتكبها الشباب والشابات من أجل
بناء الدولة الإسرائيلية على الأرض التي كان يعيش فيها الفلسطينيون.
وكانت النتيجة فيلم "الطنطورة"، وهو نتاج عمل استمر
لما يزيد على العامين من البحث والمقابلات مع العشرات من أولئك الرجال والنساء الذين باتوا
الآن في العقد التاسع من العمر، حول الأحداث التي لم يسبق لمعظمهم أن تحدثوا عنها،
بل وكان كثيرون منهم من قبل ينفونها نفياً قاطعاً.
في فيلم "الطنطورة"، والذي اكتسب اسمه من قرية
فلسطينية ساحلية بجوار حيفا طمست تماماً واختفت من الخارطة أثناء النكبة، يمضي شوارز
في التحقيق في مجزرة ارتكبت بحق ما لا يعرف عدده من القرويين بعد أسبوع واحد فقط من
قيام دولة إسرائيل.
يروي الفيلم، الذي ستبدأ عروضه في قاعات السينما الشهر القادم
في الولايات المتحدة، حكاية قل من الإسرائيليين من يرغب في سماعها، "إنها حكاية
لا يعلمون ماذا عساهم يفعلون بها"، كما يقول.
ولكن شوارز ليس أول من يحاول سرد الحكاية. ففي تسعينيات القرن
الماضي، أجرى طالب الدراسات العليا الإسرائيلي تيدي كاتز مقابلات مع أعضاء في لواء
أليكسندروني التابع لقوات الدفاع الإسرائيلية، وهي الوحدة التي نفذت المذبحة، وكتب
موضوعاً يعتمد فيه على شهاداتهم.
إلا أنه ما لبث أن تعرض للتدمير بسبب ما أقدم عليه. فقد رفعت
ضده قضية، مثل بسببها أمام القضاء، وأجبر على التراجع عما كتبه، بل والاعتذار عنه،
ولم يحصل على الدرجة العلمية التي كان يعد لها. ولكن لم يطلب أحد، قبل شوارز، من كاتز
السماح له بالاستماع إلى تلك الشهادات. ولذلك، فإنه متسلحاً بأشرطة التسجيل، عاد شوارز بعد
سنين إلى نفس أعضاء اللواء، وقد اقتربوا من نهاية أعمارهم، وطلب منهم التحدث عما لا
يتحدث عنه أحد داخل إسرائيل.
يتضمن الفيلم مقاطع أرشيفية لم تشاهد من قبل لأحداث النكبة،
ويشتمل كذلك على عملية إعادة بناء باستخدام الوسائل العلمية الحديثة للقبر الجماعي
الذي طمست معالمه منذ وقت طويل وحل محله موقف للسيارات، ولذلك فهو تحقيق فظيع في الذاكرة
والتجربة المؤلمة، بشكل فردي، ذاكرة وتجربة في حالة صدام مستمر مع سردية لا يسمح بالمساس
بها لبلد أقنع نفسه بأنه قائم على الطهر. إنه جهد غايته معرفة حقيقة ما جرى في الطنطورة،
ولكنه في نفس الوقت فيلم عن المجتمع الإسرائيلي والضرر الذي نجم عن خطيئة تأسيسه، ذلك
الضرر الذي ما زال قائماً حتى اليوم.
وهي أيضاً حكاية لم يتوقف الفلسطينيون يوماً عن روايتها،
وإن كان ثمة ما هو متفرد ومتميز في سماعها من الجناة أنفسهم.
يقول شوارز: "يعرف الفلسطينيون الحكاية. فهم لم يتوقفوا
عن سردها، ولقد سمعها العالم منهم، ولكن هذا العالم كثيراً ما يصدق ما يصدر عن الجانب
الإسرائيلي، بينما الإسرائيليون لا يعترفون بهذه الحكاية. فالفيلم يروي حكاية إسرائيل
التي تتعامى".
ما يرجو شوارز أن ينجم عن الفيلم في نهاية المطاف هو الاعتراف
بما فعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، وعن ذلك يقول: "لقد سلبنا منهم تاريخهم.
لم يتوقف الأمر عند ارتكابنا التطهير العرقي بحقهم إذ أخرجناهم ولم نسمح لهم بالعودة،
ولكنا سلبنا منهم أيضاً الحكاية الحقيقية، وسلبنا منهم حق التذكر، وهذا بحد ذاته أمر
فظيع".
كان يعلم شوارز قبل أن يمضي قدماً بسرد حكاية الطنطورة أنه
-كحال كاتز من قبله– يخوض في فصل من التاريخ الإسرائيلي لا يرغب أحد هناك في قض مضجعه.
وكما تذكر زوجة كاتز في الفيلم، بعد أن أثار بحث زوجها فضيحة داخل البلد، قال لها العديد
من الناس: "اسمعي، نحن نعلم أن ذلك وقع بالفعل. ولكن لماذا الحديث عنه؟ لماذا
الكلام عنه؟".
في واحد من مقاطع الفيلم الأكثر إثارة للشجون، يتوجه كاتز،
الجالس في مقعده المتحرك بعد إصابته بالعديد من الجلطات، إلى شوارز بسؤال عما إذا كان
مستعداً لمواجهة حملة التصيد التي ستشن عليه كما حصل معه هو من قبل.
وفعلاً، قوبل فيلم شوارز بطريقة ما بنفس الرفض الشديد الذي
لقيه بحث كاتز.
وبذلك غدا "الطنطورة" أكثر فيلم يتم الحديث عنه في إسرائيل
وأكثر فيلم يناله التنديد والاستنكار.
ورغم كل هذا الجدل، فإن قلة قليلة من الناس هي التي شاهدته.
في الولايات المتحدة بدأ عرض الفيلم في سوندانس وحظي بالكثير
من الإشادة من قبل النقاد، إلا أن أحداً من الموزعين لم يبد استعداداً لتحمل الهجمة
المعاكسة التي من المؤكد أنها سترافق عرضه. يقول شوارز: "هذا الفيلم ليس مما يصمم
بهدف إرضاء الجمهور. فالناس تميل إلى التغاضي عنه. يريد الناس التوجه إلى مراكز التسوق
الكبيرة للتنزه وتناول المثلجات".
بعض المؤرخين، بما في ذلك بعض البارزين منهم، نددوا بشوارز
ووصموه بالغش والكذب تماماً كما وصموا كاتز من قبله. إلا أن بضعة منهم بدوا على استعداد
للتنقيب في الماضي والبحث في الأدلة المقدمة.
في حوار مع أحد المؤرخين الذي قال له إنه لا يصدق إفادات
الشهود، سأله شوارز: "ألا تريد أن تحسم المسألة وتنتهي من الموضوع؟ فرد عليه المؤرخ
في الفيلم: "لا أعبأ إذا بقيت المسألة دون حسم".
ليست إسرائيل البلد الوحيد الذي يبيض تاريخ نشأته خدمة لسردية
قومية، ولكن نظراً لأن ذلك التاريخ قريب جداً وبما أن بعض من يناقضون تلك السردية ما
زالوا على قيد الحياة، يقدم فيلم "الطنطورة" فرصة نادرة لفهم كيف تختلق الأساطير القومية
وكيف يتم الدفاع عنها، وبأي ثمن.
في حالة إسرائيل يتم الدفاع عن السردية بشدة، ما يجعل الحاجة
إلى الفهم أكثر إلحاحاً، وخاصة أن سلب الفلسطينيين وتشريدهم من ديارهم ما زال مستمراً.
وما من شك في أن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، التي أعادت رئيس الوزراء السابق بنيامين
نتنياهو إلى السلطة وتهيئ البلد لأن تتسلم مقاليد الأمور فيها أكثر حكومة يمينية حتى
اليوم، تلفت الانتباه مجدداً إلى حقيقة أننا أمام دولة لا تكف عن التوسع.
ليس الفلسطينيون هم من يحتاجون لأن يذكرهم المرء بذلك، أو
أن يذكرهم بما مضى. على النقيض من كثير من أعضاء اللواء الإسرائيلي الذين أجريت معهم
مقابلات داخل الفيلم -والذين يزعم بعضهم أنهم لا يذكرون التفاصيل المروعة حول المعركة
على الطنطورة ولكن يتذكرون أنهم توجهوا إلى الشاطئ للسباحة بعد المذبحة- تظهر في الفيلم
امرأة فلسطينية كانت طفلة في ذلك الوقت لتقول: "أتذكر كل شيء حصل في الطنطورة.
لم أنس شيئاً على الإطلاق".