قال موقع "ميدل إيست آي" في مقال للكاتب الجزائري عابد شريف، إن دول
أوروبا، هي الخاسر الأكبر من الحرب الروسية على أوكرانيا.
وذكر شريف في مقال ترجمته "عربي21"، أن الرابح الأكبر في الصراع الذي يجري منذ شباط/ فبراير الماضي، هي الولايات المتحدة، التي تحقق مكاسب غير مسبوقة.
وتاليا المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":
من الصعب لوم النرويج على أي شيء. لا يقتصر الأمر على كون بلد النبلاء هذا يأتي في مقدمة البلدان التي تحظى بأفضل أنظمة الحكم في العالم، ولكنه أيضاً محظوظ بما يكفي لأن يحظى بأكبر صندوق ثروة سيادي في الكوكب، تقدر قيمته بما يزيد عن تريليون دولار – ناهيك عن معجزة كرة القدم، إيرلنغ هآلاند، الذي من المؤكد أنه سيفوز بالعديد من الكرات الذهبية على مدى العقد القادم.
أضف إلى ذلك أن النرويج لديها غاز معظمه يتم تصديره إلى أوروبا. والنرويج مشهورة بسلميتها، ولذلك فهي لا تشارك في الحرب في أوكرانيا. ومع ذلك فقد غدت من أكبر المستفيدين من هذه الحرب، ولم تزل تجني المكاسب من الحرب بكياسة منقطعة النظير، حيث يتوقع أن يجلب الغاز للنرويج إيرادات تقدر بعشرات المليارات من الدولارات هذا العام، والرقم في ارتفاع مستمر.
ولكن، وبما أن ثمة محادثات تجري الآن بين الروس والأمريكان حول أوكرانيا، فقد بات جلياً أن الرابح الرئيسي في هذا الصراع أبعد ما يكون عن ساحة المعركة. فبدون نشر جندي واحد ولا إطلاق رصاصة واحدة، ها هي واشنطن تجني مكاسب جيوسياسية واقتصادية وعسكرية وسياسية غير مسبوقة.
من أجل الحفاظ على زعامتها، بالنظر إلى معركة الجبابرة ضد الصين، تحتاج الولايات المتحدة إلى استعادة هيمنتها على العالم الغربي وفرض الانضباط من قبل الآخرين لها. وهذا ما تم الآن تحقيقه بالفعل، بعد أن سارع الجميع، بحماسة أو بدونها، إلى وضع أنفسهم تحت المظلة الأمريكية – بدءاً بأوروبا، التي وأدت طموحاتها وتطلعاتها نحو الاستقلال.
عقود الطيران والغاز
تتم حماية البلدان الغربية من قبل الولايات المتحدة تحت راية الناتو، المنظمة التي كانت ذات يوم عرضة للنقد الشديد، والتي اعتبرت، قبل وقت ليس بالبعيد من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، "في حالة موت سريري".
إلا أن حرب أوكرانيا أعادت تأهيل الناتو بشكل كامل في أعين الشعوب الأوروبية، وبطريقة كاريكاتورية يمكن أن تلخص من خلال الشعار التالي: "الولايات المتحدة زعيمة العالم الحر والناتو هو ذراعها الواقي."
ومع ذلك لا تقتنع الولايات المتحدة بالمكاسب الجيوسياسية وحدها. فهي تريد أيضاً أن تكسب تجارياً، وبهذه الطريقة يتسنى لها فعلاً تحقيق التفوق، ولم لا وقد جاءتها حرب أوكرانيا هدية من السماء.
بفضل التوترات الدولية التي أفرزتها الحرب فقد ارتفعت مبيعات السلاح حول العالم. ومن أين نشتري هذه الأسلحة؟ بالطبع من الولايات المتحدة. وعدت واشنطن أوكرانيا بما قيمته مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية، ولكن ما من شك في أن الأمريكيين سوف يتأكدون من الحصول على نصيب الأسد لأنفسهم من عقود التسليح. كما سيتم تزويد زبائن أمريكا الآخرين بكميات وفيرة من السلاح، وها هم المشترون يصطفون في الطابور.
في مجال الطيران، تم الإعلان عن العقود الكبرى مباشرة بعد الغزو الروسي، كان أحدها مع ألمانيا لتزويدها بخمس وثلاثين طائرة مقاتلة من طراز إف 35، بتكلفة تزيد عن 8 مليارات دولار. كما تخطط كندا لشراء ثمان وثمانين طائرة مقاتلة من طراز إف 35 بتكلفة تقترب من 15 مليار دولار، بينما أعلنت فنلندا في العام الماضي عن تقدمها بطلب شراء أربع وستين طائرة بتكلفة تقترب من 10 مليارات دولار.
في نفس الوقت سادت كثيراً من البلدان الأوروبية حالة من الهلع الحقيقي لشراء كافة أنواع الأسلحة، فأعلنت ألمانيا عن إقامة صندوق خاص بقيمة مائة مليار دولار لتحديث جيشها. ولا ريب أن ذلك سيشمل شراء الأسلحة والمعدات، وها هي الشركات الأمريكية الصانعة للسلاح تنتظر توافد الطلبات عليها.
كما حققت الولايات المتحدة معجزة كذلك بفضل الحرب في أوكرانيا، حيث انبرت لتعويض الغاز الروسي ذي التكلفة الزهيدة بالغاز الأمريكي ذي التكلفة الباهظة، فقد تضاعفت صادرات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى أوروبا خلال النصف الأول من عام 2022، متجاوزة بذلك كل الصادرات التي سجلت في عام 2021.
أفضت هذه الحالة إلى سلسلة من الاختلالات الوظيفية التي لا تحتمل في أوروبا، فالطاقة غدت مكلفة جداً، والاقتصاديات لم تعد منافسة، وأصبحت التوترات السياسية والاجتماعية فوق الاحتمال، وراحت النخب السياسية التقليدية تخسر مزيداً من النفوذ في ظل تصاعد قوة الشعبويين. وأدت هذه الآليات الاجتماعية السياسية إلى سلسلة من التفاعلات التي لم يعد بالإمكان التحكم بها.
فقدان الاستقلال الذاتي والهوية
تشير هذه الملاحظات بشكل صارخ إلى أن أكبر الخاسرين في هذه الحرب، بعد أوكرانيا نفسها، ستكون أوروبا. فمن خلال الانخراط مذعنة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، تفقد أوروبا استقلالها الذاتي وهويتها معاً. ترغب البلدان الأوروبية في تجنب انتقاد حماتها الأمريكان، إلا أن الوضع غدا غاية في الصعوبة مما حدا بالزعماء الأوروبيين مؤخراً إلى إصدار تحذير بذلك.
وكان ماكرون قد لاحظ في شهر أكتوبر / تشرين الأول أن منتجي الغاز في الولايات المتحدة يجبرون الزبائن في أوروبا على دفع أسعار أعلى بعدة مرات عما يطلبونه من الزبائن في الولايات المتحدة. بل ذهب وزير المال الفرنسي إلى أبعد من ذلك حين تجرأ بالبدء بتمرد تجلى بالتأكيد على أنه "من غير الوارد أن نسمح للصراع في أوكرانيا بأن يتمخض عن هيمنة اقتصادية أمريكية وعن ضعف أوروبي."
إلا أن هذا الخطاب الذي كان موجهاً للرأي العام الفرنسي بهدف التأثير عليه لا يمكنه إخفاء الواقع الأقل من وردي الذي يهدد بالركود والتضخم وصعود الشعبوية وتعمق الانقسامات.
ونظراً لأن أوروبا غير قادرة على التأثير على مجرى الأحداث، فلسوف يتوجب عليها البقاء ملتصقة بالأخ الكبير الأمريكي. إلا أن التشققات بدأت تطفو على السطح إزاء كيفية التعامل مع أزمة الغاز.
وكل من يقول إن أوروبا هي الخاسرة في الحرب الأوكرانية فإنه يشير بإصبعه إلى ألمانيا باعتبارها الضحية الرئيسية. نظراً لأنها المحرك الاقتصادي للقارة، باتت ألمانيا بحكم الأمر الواقع مركزاً لأوروبا – ولكن يبدو الآن أن الولايات المتحدة هي التي تقوم بهذا الدور. لقد كشفت الأزمة الأوكرانية نقطة الضعف في ألمانيا، ويبدو الآن أن البلد يتجه نحو الركود، وإذا ما حصل ذلك فلسوف تجر معها كافة البلدان الأوروبية.
المقاومة الروسية للصدمات
من المبكر معرفة الأثر الذي ستخلفه الحرب على كل من أوكرانيا وروسيا، ولكن يمكن القول بأن النتائج بالنسبة لموسكو عبارة عن مزيج، فعلى الرغم من قوة
روسيا إلا أن جيشها لم يتمكن من إنجاز حرب خاطفة تسمح لها بفرض شروطها مباشرة على أوكرانيا. بل لقد أفضى غزوها لأوكرانيا إلى تقارب الأخيرة مع الناتو، كما أثبت محدودية الفعل العسكري، حتى من قبل قوة عظمى.
كما تجازف روسيا بإحداث قطيعة دائمة مع أوروبا، الأمر الذي سوف يكلفها، وإن كان سيسمح لها بالمراهنة أكثر على عمقها في آسيا، فتتوجه نحو الصين والهند، القوتين الاقتصاديتين الكبيرتين في القرن الجديد، وكذلك نحو أكنافها الجنوبية، فتتقارب أكثر مع القوى الصاعدة هناك والمتمثلة أساساً بتركيا وإيران.
إلا أن روسيا تحملت الصدمة في القطاع الذي كانت تعتبر فيه ضعيفة، ألا وهو الاقتصاد. فبعد العقوبات المتعاقبة التي فرضتها عليها البلدان الغربية، استعاد الروبيل عافيته، وزادت الإيرادات الخارجية على الرغم من تقلص حجم صادرات الغاز، ويتنبأ صندوق النقد الدولي بأن الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي لروسيا سيكون في حدود ما نسبته 3.4 بالمائة، وهذا أبعد ما يكون عن التخمينات الكارثية السابقة التي اعتبرت أن روسيا مقبلة على انهيار اقتصادي كلي. وهذا دون حتى الإتيان على ذكر المكاسب الإقليمية لروسيا في شرقي أوكرانيا.
في نهاية المطاف ستكون أوكرانيا أكبر الخاسرين على الإطلاق في هذه الحرب. فبعد أن فقدت شبه جزيرة القرم في عام 2014، ها هي تفقد المزيد من الأراضي. كما أنها سوف تجد نفسها في وضع مع جارتها يتسم بالعداوة والتهديد المتبادل، وهو وضع قد يمتد لسنين، أو ربما لعقود، طويلة. كما تعاني أوكرانيا من تداعيات الحرب المعهودة: تكبد الخسائر البشرية، ودمار البنية التحتية والنسيج الاجتماعي، ونزوح السكان، وعسكرة الحياة الاجتماعية والسياسية، وانتشار السلاح، والاعتماد على البلدان الأجنبية، إلخ ...
حتى الآن تعيش أوكرانيا على أجهزة الإنعاش التي تزودها بها البلدان الغربية. كما أن الرسائل التي يوجهها الرئيس فولوديمير زيلنسكي، والتي يحرص الغربيون على إعادة بثها ونشرها، تجعل من الممكن إخفاء ما لحق بالبلد من أضرار هائلة. ومع ذلك فالفاتورة حتى الآن مرعبة. يتنبأ صندوق النقد الدولي بأن اقتصاد أوكرانيا قد ينكمش بما نسبته 35 بالمائة هذا العام، بينما يقدر الضرر الذي لحق بها بسبب الحرب بمئات المليارات من الدولارات، وهذا واقع لا قبل لأي خطاب بطولي بتغييره.
للاطلاع إلى النص الأصلي (
هنا)