الكتاب: مانويل مسلم ...كلمة إلى الأمة الموسوعة المعرفية والنضالية (5)
إعداد وتحرير: محمد أبو ركبة
الناشر: معهد بيت الحكمة، آب/أغسطس 2022م.
عدد الصفحات: 220 صفحة.
عاش مسيحيو
فلسطين المعاناة في فلسطين جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين من
الاحتلال الإسرائيلي، ووقف الجميع بشموخ للتصدي لهجمات الاحتلال السياسية والعسكرية والتاريخية، التي أريد منها تشويه وتزييف الحقائق التاريخية، ونزع الهوية الفلسطينية عن الكل الفلسطيني، فعاش الجميع سنوات من القهر والعذاب والآلام بصمود وتحدٍّ للاحتلال ومخططاته، التي تهدف لشطب الجميع وإجباره على الرحيل من أرضهم، فخاضت القيادات الإسلامية والمسيحية صنوف النضال السلمي والعسكري كافة، وصدحت بصوتها لقول كلمة الحق في وجه محتل ظالم مضى على وجوده سبعة عقود.
هذا الكتاب يمثل نموذجا لشخصية بارزة، هي شخصية الأب مانويل مسلم، الذي انحاز لأحقية الشعب الفلسطيني بأرضه المحتلة، فوجه النداءات في جميع الاتجاهات؛ داعيا شعوب العالم للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض أبناؤه لمختلف صور العذاب، هدمت فيه البيوت على رؤوس أصحابها، واستغل المناسبات الوطنية كافة ليذكر الشعب بأهمية الصمود والتصدي لهجمات الاحتلال.
قدم لهذا الكتاب وجيه أبو ظريفة قائلا: "الرجال قدرات وأعمالهم قدوات، والأب مانويل مسلم لم يكن فقط قريبا من القلب والروح، بل كان شريان حياة للكثير من الناس؛ حيث درج على التقاء الجميع في الكنائس والمدارس التي يديرها، وفي المناسبات الدينية والوطنية. شخصية استثنائية لم يعتد الناس وجودها، فهو يمثل وقار الكبير، وبشاشة الصديق، وهيبة المسؤول، وابتسامة الإنسان، وثقة المؤمن، هذا الإنسان سند للقدس، ونبراس يهتدى به شعبها، ويكفي ما يقوله الأب مانويل: "القدس كيان يلامس الإنسان والأرض والدين" (ص13).
وضع هذا الكتاب في إطار النضال العملي للمحافظة على حق الفلسطينيين في ديارهم ومقاومة المحتل الغاصب، فيه يتعرف القارئ على جانب من جوانب نضال الفلسطينيين من أجل وطنهم المغتصب وشعبهم المغدور. جمع الكتاب موضوعات النداءات الموجهة إلى قادة العرب والمسلمين للتحرك من أجل المقدسات، وقد حث الأب مانويل، المملكة الهاشمية نحو الاضطلاع بمسؤولياتها تجاه القدس والأقصى، وكذلك تونس والسعودية، وتعرض لصفقة القرن، وطالب شعوب الأمة وزعامتها بالتصدي لها؛ فالقدس وفلسطين هما درة التاج لكرامة الأمة وعزها ( ص17).
ومن صرخات الأب حيال ما يجري في القدس: "ستؤكل قيامتنا يوم يؤكل أقصانا، وإن لم تنتصروا للأقصى فلا تستحقون مكانا لكم في القدس، وإذا صمت رجل الدين وانزوى، وأطاع طاعة عمياء ولم يقل كلمة حق في وجه حاكم ظالم واحتلال غاشم، فاعتبروه جرة عسل فارغة مشروخة". ولوح بأن البندقية هي طريقنا، وهي نورنا وهي قوتنا وهي ثباتنا وإرادتنا؛ وذلك لأن أرضنا محتلة، ومن حقنا أن نحررها.
عبر سامي الأسطل عن مدى إعجابه بهذه الشخصية الوطنية، الأب مانويل حنا شحادة مسلم من مواليد عام 1938م، عايش النكبة الفلسطينية بتفاصيلها، وتألم مع أبناء شعبه التهجير القسري والقتل المتعمد من محتل غاشم، رأى المجازر والإرهاب الإسرائيلي والكذب والتدليس، فكان صوت الشعب على المنابر الإعلامية والصوت الفلسطيني المسيحي الذي "يدعم الجهود الفلسطينية، ويعمل على ترسيخ مفاهيم أن الحق ينزع انتزعا، ولا يأتي منة أو تفضلا من الاحتلال، وأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لن يردا الحقوق إلى أهلها، كما أن الدول الضعيفة لا يمكنها استرداد حقوفها بالشكوى والأنين" (ص16).
من صرخات الأب حيال ما يجري في القدس: :ستؤكل قيامتنا يوم يؤكل أقصانا، وإن لم تنتصروا للأقصى فلا تستحقون مكانا لكم في القدس، وإذا صمت رجل الدين وانزوى، وأطاع طاعة عمياء ولم يقل كلمة حق في وجه حاكم ظالم واحتلال غاشم، فاعتبروه جرة عسل فارغة مشروخة".
يشير إبراهيم أبو شبيكة في تقديمه إلى أن القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، وإن كانوا أولى بها، وليست للعرب وحدهم، وإن كانوا أحق أبناء الأمة بالدفاع عنها، ولهذا جاءت نداءات مانويل مسلم.. يا أمة الإسلام، هبوا فقد جد الجد، ودقت ساعة الخطر، ونبه مسلم إلى "ما يكابد الفلسطينيون في شتاتهم وهجرتهم. نراه يحمل همهم فيقول؛ إن رحلة هجرتكم المستمرة، تتعمق كل يوم في أعماق أرض الملجأ وشعوب الملجأ، والقدس التي تحلمون بها هي أمكم، وستبقى تنتظركم، ونزيف الشعب الفلسطيني منذ عام 1947م لا يزال داميا. التهجير والتدمير والقتل وقضم الأرض، وتدنيس المقدس نزيف يتعاظم كل يوم، وخاص في القدس التي تحلمون بالعودة إليها" (ص20). في كل زاوية من هذا الكتاب ترى فلسطين بكل تجلياتها، بكل مستقبلها حاضرة حضورا حقيقيا. وفي ثنايا هذا الحضور، وقلب هذا الحضور دفاع عن القضية الفلسطينية، وحمل الهموم التي لا تنتهي (ص22).
بدأ المحرر محمد أبو ركبة بترتيب النداءات من الأحدث إلى الأقدم، وضم الكتاب تسعين نداء، قيلت على لسان الأب مانويل مسلم في تسعين مناسبة ما بين عام 2022 ـ 1999م، وجرى صياغة عنوان لكل نداء من المحرر للتدليل على محتوى النص، والتسهيل على القارئ، وتعد نداءات عام 2019م الأوفر، حيث بلغ عددها نحو 24 نداء، دعا فيها الجميع أن يستفيقوا من غفلتهم، ويدافعوا عن مسرى الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم.
أخذت مدينة القدس وما تتعرض له المقدسات الإسلامية والمسيحية حيزا كبيرا من فكر واجتهاد الأب مانويل مسلم، ففي جوالاته الخارجية كانت القدس حاضرة في كل المناسبات، وأرسل سلامات القدس الجريحة للعالم الحر، تضمنت أنين استغاثة "القدس تسلم عليكم"، وفرق بين الدول الراقية التي تبني إنسانية الإنسان داخل السجن وبين الاحتلال الصهيوني الذي يحاول قهر الفلسطيني "يحاول أن يدمر إنسانية الإنسان الحر الطليق والقويم والراقي، فيرميه في السجون الإدارية، هناك تتم عملية التحول من إنسان مسالم هادئ إلى إنسان ثوري مقاوم، ويبحث كل دقيقة عن إمكانية الهرب. ويضيف: الفلسطيني لا ينهزم أمام السجن، بل السجان نفسه؛ حين يشعر بقساوته وغلظة سلوكه، ويصبح سجين الاكتئاب، والخوف من المجهول (ص36).
وفي حثه لأحرار العالم لنصر القدس والشيخ جراح، ذكر العالم بالعهدة العمرية وحالة الوئام بين المسلمين والمسيحيين حتى في أحلك الظروف التي تعرضوا لها.. تسلح الفلسطينيون مسلمين ومسيحيين بالعهدة العمرية، ليحموا باب العامود وباب الأسباط وباب الرحمة وخان الزيت ومحمد وضاح حنا ومانويل؛ كي لا يقتلعهم الإعصار الصهيوني والشيخ جراح أو سلوان وجبل المكبر" (ص33).
أما سلاح تحرير فلسطين عند الأب مسلم، فليس اتفاقيات التسوية: "إن البندقية هي طريقينا، وهي نورنا، وهي قوتنا، وهي ثباتنا وإرادتنا؛ وذلك لأن أرضنا محتلة، ومن حقنا أن نحررها" (ًص38)، ورفض العيش في شتاء أوسلو وظلام الانقسام وحسرات الشتاء، بين أنين مطاردة المستوطنين في الشيخ جراح وسلوان وباب العامود، مقدما رؤيته الوطنية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة بتاريخ 16/12/2021م، "الفصائل الفلسطينية ضربت على عينيها يوم أوسلو وسقطت شبيكتها، فلا ترى خلاصنا من أين يأتي، الشعب اليوم بحاجة إلى مشروع وطني، بعدما فشلت جميع المشاريع التي فرضت عليها سواء من الأمم التحرير ـ قرار التقسيم ـ أو منظمة التحرير ـ أوسلو وحل الدولتين ـ أو العرب بالمبادرة العربية، أو أمريكا صفقة القرن، أو نتنياهو السلام مقابل السلام أو بينت السلام مقابل الاقتصاد"، وجميع الفصائل لا يحق لها أن تبدع لنا هذا المشروع الوطني، فلا بديل عن المرونة في انتخاب المجلس الوطني إلكترونيا في الوطن والقدس والشتات"، بغير الأسلوب الإلكتروني لا توجد إمكانية الانتخابات مجلس وطني شامل، الانتخابات الإلكترونية التي تشمل القدس والوطن التاريخي والشتات، وتتجاوز جميع العقبات الداخلية والإسرائيلية والعربية والأجنبية"، وطالب السلطة تنظيم المقاومة بجميع أشكالها لا تنظيم حياة الشعب تحت الاحتلال أن يستكين ويستقر، فالشعب المستقر المستكين لا يفكر بحريته وتحريره، بل يتواءم مع واقع الاحتلال ( ص40).
جاء حضور مسلم في المؤتمر العالمي الإسلامي 5/3/2021م، وإلقاء كلمة ليرسم صورة مشرقة للأخوة الإسلامية والمسيحية في فلسطين، فاعتبر المؤتمر بارقة أملنا في تغيير أرضنا وانسانتنا وقدسنا ومقدساتها: "أنا الفلسطيني المسيحي أنقل إليكم من القدس صوت الأقصى المبارك، يقول لكم: أنا الأقصى مهدد وفي خطر، اسمعوا وجعي، ووجع شعبي نحن في ضيق وعناء شديد، فأين أنتم
المسلمون والعرب؟"، وليأمر هذا التجمع القيادي الإسلامي، بوقف جميع النزاعات والحروب والاضطهاد، أوطاننا الإسلامية والعربية بالحكمة والموعظة الحسنة، والعودة بالإسلام إلى الوسطية، ونبذ التطرف الديني وبناء مجتمع مستقر أساسه السماحة والأخوة والكرامة والإنسانية (ص47).
الأب مانويل حذر قادة العرب والمسلمين من أن التطبيع مع إسرائيل يمثل الفرصة لتنفيذ صفقة القرن، والسيطرة على فلسطين ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، ويحمل في ثناياه تخطيطا لتمزيق الهوية العربية ووحدتها، ويخفي بعدا إرهابيا بإيقاظ هويات كالآرامية والسريانية والفرعونية.
ومع اشتداد الهجمة الإسرائيلية على المسجد الأقصى العام الماضي، دعا رجال الدين المسيحيين للرباط في الأقصى 8/5/2021م، ووصف ما يجري من اقتحامات يومية للمسجد الأقصى، وفي نهار رمضان بالنكبة الجديدة التي تضاف لنكبات الشعب الفلسطيني: "الاحتلال يحاول السيطرة على كل القدس، داعيا رجال الدين المسيحيين بالتوجه فورا إلى المسجد الأقصى، وإثبات الأخوة في مواجهة الاحتلال وجرائمه، وناشد الكل الفلسطيني بتحمل مسؤوليتاهم ومواجهة الاحتلال بكل قوة".
رأى مسلم في غزة المكان المناسب لإجراء التغيير من المقاومة إلى التحرير، بقهر المستحيل عبر تحويل فكر رجل المقاومة إلى رجل التحرير، وبندقية وصاروخ المقاومة، إلى بندقية وصاروخ التحرير، وقدس المقاومة إلى قدس التحرير، ووضع مسلم الخط الاستراتيجي لذلك:
ـ الاتحاد الوحيد المطلوب، هو اتحاد المقاومين وسلاحهم، واستقلالهم عن الفصائل والسلطة لتصبح الفصائل سياسية فقط.
ـ جميع رجال المقاومة في الوطن والشتات يفرزون أنفسهم ولو بالعصيان عن الفصائل، ويتحدون تحت قيادة مستقلة.
ـ إسرائيل تهزمها فقط المقاومة، مقاومة الفصائل عجزت عن حماية أحرار جلبوع.
ـ كل فلسطين التاريخية أصبحت بيئة خصبة لهذه المقاومة، وهي التي تحيد قوة إسرائيل المبنية على الطيران والقنبلة النووية (ص50).
إن الوجود المسيحي في فلسطين والقدس هو قضية إسلامية محضة، أي إن المسلمين لا يفرطون بالوجود المسيحي بينهم بل يكرمونهم ويحامون عنهم؛ لأنهم جزء من نسيجهم الوطني، والهجرة المسيحية تقلق المسلمين، والمسيحي بدوره لا يطلب حماية من أي جهة مسيحية أو دولة مسيحية، وكما قابلنا الصليبين مع صلاح الدين، نقاتل اليوم الصهاينة مع المقاومة والمسلمين، ومن المسيحيين إلى القدس عهد ووعد" (ص70).
أما بخصوص صفقة القرن، فوجد فيها نهاية مشروع الوطن القومي المزعوم، وما هي إلا الصفقة الأخيرة من كتاب اسمه إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والتطبيع إعصار اجتاح الدول العربية ووصل إلى السعودية والخليج". وحذر قادة العرب والمسلمين من أن التطبيع مع إسرائيل يمثل الفرصة لتنفيذ صفقة القرن، والسيطرة على فلسطين ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، ويحمل في ثناياه تخطيطا لتمزيق الهوية العربية ووحدتها، ويخفي بعدا إرهابيا بإيقاظ هويات كالآرامية والسريانية والفرعونية.
وفي دعوته للتلطف بالفقراء والمعوزين الفلسطينيين بفعل الحصار والجوع، أشار بالقول: "يعاقبونهم بالحصار والجوع، لكي ينهاروا ويستسلموا؛ ظنّا منهم أن الجوع يقود إلى السلام، والحقيقة أنه يقود إلى أفظع أنواع الجريمة، قد يكون الجياع أسر شهداء أو أسر سجناء أو أيتاما وأرامل مرضى ومعاقين، هؤلاء من يدافع عنهم وعن حقوقهم، لذلك أرسلت إليكم: "اكسر الحصار" (ص142).
وأخيرا، يعد هذا الكتاب من الوثائق المهمة التي تحوي بين دفيتها معنى الأخوة الإسلامية المسيحية في فلسطين، ويشكل الكتاب ما يشبه الذاكرة الحية للأب مانويل مسلم، الذي عبر بكل وطنية عن فلسطينيته التي حاول المحتل المسَّ بها.