منذ 67 عاما يتذكر الفلسطينيون كبار السن تلك العاصفة التي أثارها خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة الذي ألقاه في أريحا عندما كانت الظروف مختلفة تماما عن ظروف اليوم.. ولم تندلع بين العرب وإسرائيل أية حرب جديدة منذ حرب 1948.
لقد عشت توابع ذلك الزلزال حين ألقى الرئيس التونسي خطابه الشهير في
مخيم أريحا وكان يقوم بجولة في تسع من دول المنطقة شرع يخطط له منذ شهر ديسمبر 1964
على إثر مقابلته مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر.. وأتذكر أن بورقيبة قال لنا في
لقاء بالصحفيين وكنت مبتدئا مبكرا في
الصحافة بعد سنوات من الحدث إن ما طمأنه وشجعه على الإصداع برأيه هو ما سمعه من
عبد الناصر من موافقة بل وتحفيز.. ثم بدأ رحلته المشرقية من 18 فبراير إلى 15 مارس
1965، وحلل برؤية المناضل العربي المجرب المعوقات والأخطاء العربية التي أدت
بالفلسطينيين إلى تلك الحالة من الاحتلال والتشرد، واقترح أن يأخذ أبناء الشعب
الفلسطيني مصيرهم بأيديهم وأن لا تغرهم الشعارات الحماسية حتى يخططوا للنصر بالعقل
والحكمة والاستعداد دون التفريط في الأصل وقال في ذلك الخطاب: حذار من أن تكون
فلسطين هي الأندلس الثانية.
وللتاريخ فإن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان أول من فهم وفكك
اللعبة السياسية والاستراتيجية العالمية قبل غيره فيما يتعلق بالملف الفلسطيني حين
ألقى خطابه الشهير بمخيم أريحا في 11 مارس من عام 1965 وعرض خلاله الحل الذي يوازن
بين الحق والواقع أي بين الحفاظ على الوطن بالكفاح المسلح والدبلوماسية بالتمسك
بالشرعية الدولية المتمثلة في قرار التقسيم 29 نوفمبر 1947 وبذلك مثلما قال
بورقيبة نضع إسرائيل خارج الشرعية. والذي حدث مع الأسف بعد ذلك هو شتم بورقيبة
واتهامه بالتهم العربية الجاهزة.
واليوم بعد زمن معقد وطويل من خطاب أريحا نجد بعض العرب في غفلة من
الحقائق الجديدة والتحولات الراهنة في العالم، لا يزالون لا يفرقون بين الحق
والواقع، ويطالبون بالمستحيل عوض المطالبة بالممكن الآن وتأجيل ما هو غير ممكن
للغد أو لما بعد الغد دون التفريط في الحق، لأن السياسة هي في النهاية فن الممكن،
والتفاوض مع العقبات والمناورة المشروعة من أجل إحباط مخططات الخصم والعدو. ولعل
الاحتقان المؤقت الذي يعرقل الشعب الفلسطيني بعد تباطؤ المصالحة بين الإخوة في
الضفة والقطاع هو احتقان سببه الأول عدم التفريق بين الغاية الأساسية الإستراتيجية
والوسيلة الملائمة لبلوغها وهي المسماة بالتكتيك أي التخطيط السياسي الذكي مرحلة
مرحلة وخطوة خطوة. فالمجاهدون في الجهاد وحماس لهم نفس الغاية التي يسعى إليها
محمود عباس بالضبط استراتيجيا لكن الاختلاف وحتى الخلاف هو في التكتيك أي المرحلية
و العقلانية واستعمال العقل والبصيرة..
في أعقاب عودة الحرارة لمبدإ المصالحة الفلسطينية باجتماع المناضلين
من "فتح" و"حماس" وجميع الفصائل وبداية تشكل وحدة حقيقية حول
الأهداف المشتركة نشأت في العالم العربي ولدى الرأي العام العربي حقيقة جديدة
مخيفة وهي أنه بتراكم المصائب بعد إجهاض الربيع العربي واستفحال ظاهرة داعش وخطورة
الوضع السوري وحروب الفصائل في ليبيا وتعقد الوضع في العراق ومخاطر انقسام اليمن
وعدم الاستقرار في أغلب الشرق الأوسط، فإن منزلة القضية الجوهرية للعرب أي فلسطين
بدأت تتراجع بل ولا تحتل الصدارة لدى الدول العربية نفسها فما بالك بالدول الأخرى
وأعداء العرب! وهو ما مكن نتنياهو من ابتزاز الولايات المتحدة والتلاعب على وتر انقسام القرار الأمريكي بين البيت الأبيض والكونغرس في زيارته الأخيرة التي دعا
فيها للحرب على إيران وزعزعة ما تبقى من أمل في العالم العربي والإسلامي.. كما أن
جامعة الدول العربية مغيبة وشرعت إسرائيل الظالمة تراجع مواقفها وتتموقع دوليا على
ضوء هذا التشرذم العربي..
وقد كتب عدد من المراقبين مقالات وأبدوا آراء وأعلنوا مواقف كان
أغلبها يدور حول هذه المحاور الثلاثة المتداولة في القضية الفلسطينية وهي: الحق
والحلم والممكن، مهما اختلفت الرؤى والتحليلات، ومن هؤلاء إسرائيليون مثل كاتب
سيرة الرئيس الراحل ياسر عرفات (أمنون كابليوك) والشريك في مؤتمر جنيف / يوسي
بيلين، وهما من بين المثقفين اليهود الأكثر تفهما للقضية الفلسطينية والأشد دفاعا
عن الحق الفلسطيني إزاء الغطرسة الإسرائيلية.
وأعتقد صادقا مع نفسي بأن الرموز الثلاثة المذكورة أي الحق والحلم
والممكن هي التي علينا جميعا نحن العرب تحليلها والنقاش حولها ومن ثم تحديد
أولويات الخروج من عنق الزجاجة الذي حوصرنا فيه منذ عهد النكبة 1947 تاريخ إنشاء
دولة إسرائيل وما أعقبها من كوارث.
الاعتراف الدولي بإسرائيل منذ 1947 جاء من موسكو ومن أنقرة ومن باريس ومن نيودلهي قبل أن يأتي من واشنطن
فالحق الفلسطيني هو اليوم في منظور المنظومة الدولية الحق المعترف به
في نطاق القانون الدولي المنبثق عن قرارات منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والذي
بالطبع يهضم حقوقا للشعب الفلسطيني، وجاء جيلان جديدان ما بعد النكبة، ليكتشفا على
الميدان في الشرق الأوسط، واقعا جديدا مختلفا فرض فيه العالم كله على العرب دولة
طارئة هي إسرائيل، أقول العالم كله لا الولايات المتحدة فقط، لأن الاعتراف الدولي
بإسرائيل منذ 1947 جاء من موسكو ومن أنقرة ومن باريس ومن نيودلهي قبل أن يأتي من
واشنطن، ولأن أغلب الدول الكبرى الفاعلة في الشرق الأوسط كانت تضمر عكس ما تعلن.
وفي هذا المناخ العربي المهدد بالانفجارات المختلفة نحيي اليوم ذكرى
خطاب بورقيبة في أريحا وهو الخطاب الذي لو استمع إليه العرب لما خاضوا حروب 67 و73
ولما اضطر الفلسطينيون أن يكتفوا اليوم بحدود 1992 بعد أن كانوا يطالبون بحقوقهم
المشروعة بحدود 1947 و1967. فإن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان أول من نبه
العرب من غفلة التاريخ.. وأذكر للتاريخ أن الزعيم بورقيبة قال لنا وكنت من بين
العاملين معه في الثمانينيات: "لقد خدعني الزعيم عبد الناصر غفر الله له حين عرضت
عليه أفكاري قبل خطاب أريحا فقال لي أنذاك: "إنه الحق إنما قله أنت ممكن لأنني
رئيس دولة متشابكة مع إسرائيل".. وأضاف بورقيبة بمرارة: "لقد ضيع العرب فرصة تاريخية
أخرى"..
رحم الله الجميع وغفر لهم بعد أكثر من 67 عاما ولكن ليعتبر العرب ويا
رب رحمتك وعفوك للعرب في هذا الإعصار القادم..