قال المحاضر في الدراسات الأوروبية في جامعة كينغز كوليدج في لندن، أليكساندر كلاركسون، إن التشابه بين أزمة
مصر في سنة 2022 والجمود الاجتماعي الذي شوهد في السنوات التي سبقت سقوط حسني
مبارك يتزايد، وإن المستقبل الذي يقدمه نظام عبد الفتاح
السيسي يبدو إلى حد كبير مثل ماضي مصر القريب.
وفي مقاله المنشور على "
وورلد بوليتيكس ريفيو"، بعنوان "السيسي يجلس على برميل بارود"، تابع الكاتب: "عند متابعة بحث جديد؛ يتعثر الأكاديميون أحيانًا في مشاريع شبه منسية تذكرهم بمدى بعد الماضي القريب. وفي الأسابيع القليلة الماضية، قدمتُ بعض ملاحظاتي القديمة حول التطورات التي حدثت خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية المصرية سنة 2012، والتي كانت إحساسًا متناقضًا عن مدى التغيير الذي حدث خلال العقد الماضي، في هذا البلد وما جاوره".
ولفت إلى أنه بالنظر إلى عالم 2012؛ حيث الوقت الذي كان فيه الاتحاد الأوروبي يكافح لإنقاذ اليورو، وكانت روسيا تروج لنفسها كمورد موثوق للطاقة، وكانت الاحتجاجات الجماهيرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط تطيح برجال أقوياء مثل حسني مبارك في مصر؛ تبدو التطورات السياسية لسنة 2022 في بعض الأحيان وكأنها عالم موازٍ.
ومع ذلك؛ إذا نظر المرء إلى الضغوط الهيكلية الكامنة، فإن العديد من الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية التي تسببت في الاضطرابات في مطلع العقد الثاني من الألفية الثانية تواصل تشكيل أزمات أوائل سنة 2020. وقد جعلت نتيجة تلك الانتخابات المصرية قبل عقد من الزمان محمد مرسي العضو الأول والوحيد في جماعة الإخوان المسلمين الذي أصبح رئيسًا للبلاد، بحسب كلاركسون.
وقال إن الإطاحة اللاحقة بحكومة مرسي في تموز/ يوليو 2013 من خلال انقلاب عسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي -الذي كان آنذاك جنرالاً، وأصبح حاليا الرئيس المدني للبلاد- يرمز إلى فشل الانتفاضات العربية التي ولدت الكثير من الأمل بربيع ديمقراطي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومع ذلك، بعد عقد من الزمان، لا تزال التفاوتات الاقتصادية والاختلالات المؤسسية التي غذت هذه الفترة القصيرة من التمرد مصدرًا لعدم الاستقرار العميق في جميع أنحاء المنطقة.
وأشار إلى أنه في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يُنظر إلى الانتفاضات العربية حاليا إلى حد كبير باعتبارها فصلا تاريخيا مغلقا حُدد مصيره بالحروب الأهلية وعودة الاستبداد. وسواء تجلّى ذلك في سقوط مدينة حلب السورية التي سيطر عليها المتمردون منذ كانون الأول/ ديسمبر 2016، أو تفكك المجتمع الليبي أو الحرب الأهلية في اليمن، فقد تقبّل صانعو السياسة الغربيون حقيقة تلاشي آفاق الإصلاح، وهم يسعون مرة أخرى إلى إبرام صفقات مع رجال أقوياء محليين في اليمن، على أمل تحقيق استقرار محدد بدقة.
وفي البلدان التي لم تتأثر بشكل مباشر بالانتفاضة العربية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ترافق تعميق القمع الداخلي مع رغبة متزايدة في تمويل العودة إلى الديكتاتورية في المجتمعات العربية الأخرى، مثل نظام السيسي في مصر أو الجهود الأخيرة التي بذلها الرئيس قيس سعيد لإقامة دولة الحزب الواحد في تونس، يضيف الكاتب.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الجهود؛ هناك مؤشرات متزايدة في جميع أنحاء المنطقة على أن الجهود المبذولة لاستعادة الأشكال القمعية للنظام السلطوي للدولة قد تكون أقل استقرارًا مما تبدو عليه في الظاهر.
وأضاف: "ففي حين أن الخوف من الحركات الإسلامية أو الجهادية ولّد في البداية دعمًا واسع النطاق في الممالك الخليجية للرجال الأقوياء، فإن سحق الإخوان المسلمين والهزيمة العسكرية لتنظيم الدولة أزال العوامل الرئيسية التي مكّنت من عودة الحكم الاستبدادي".
وعلى الرغم من أن الحركات الجهادية لا تزال تمثل تهديدًا خطيرًا في أجزاء من المنطقة، إلا أن المدى الذي دمرت به عقود من الحرب قدرتهم على العمل بوتيرة عالية يعني أن السكان العرب لديهم حافز أقل لتقديم دعم غير مشروط لمؤسسات الدولة التي شرّعت القمع من خلال حرب لا نهاية لها على الإرهاب.
وأدى الانحدار الموازي للحركات الإسلامية من خلال مزيج من فشل السياسات والفساد في أثناء تواجدها في السلطة، تلاه التفكيك المنهجي لبنيتها التحتية التنظيمية بعد الإطاحة بها، إلى زيادة صعوبة استخدام الأنظمة الاستبدادية للاستقطاب حول دور الدين في الحياة العامة لصرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية.
وقد خلق ذلك بيئة لم تعد فيها الهجمات الجهادية والمنافسات الطائفية والمخاوف من شبكات الإخوان المسلمين المحتضرة الآن كافية للحفاظ على الدعم الشعبي للنخبة الحاكمة. وفي مثل هذه الظروف، يمكن أن ينفتح الفضاء أمام الحركات الأخرى القائمة على الهويات الطبقية أو القومية أو العرقية أو الجندرية للتعبئة بشكل فعال لتصبح مراكز قوة في حد ذاتها.
لقد ظهرت في لبنان سنة 2019 العلامات الأولى على كيف أن عدم قدرة النخب القائمة على منع انهيار الدولة يمكن أن يولد أشكالاً جديدة من المقاومة الشعبية. فبعد عقود من سوء الإدارة من قبل البنك المركزي في البلاد، التي استفاد منها أصحاب النفوذ الطائفيون، أدى انهيار قيمة الليرة اللبنانية إلى موجة من الاحتجاجات الجماهيرية عبر الخطوط الطبقية والدينية.
وبحلول أواخر سنة 2019، كانت هناك مؤشرات على أن حزب الله حتى، مع كل الأدوات الاستبدادية المتاحة له، كان يكافح من أجل السيطرة على الغضب المنتشر داخل قاعدته في الطائفة الشيعية في لبنان.
وقد أدت جائحة كوفيد -19 والانفجار الهائل الذي دمر ميناء بيروت في آب/ أغسطس 2020 والضغوط الاجتماعية الناجمة عن الشلل الاقتصادي الكامل إلى توقف هذه الموجة الاحتجاجية.
ومع ذلك، فإن المدى الذي بلغه الغضب الشعبي بسبب الفساد المتفشي في صفوف النخبة القديمة، ومكّن التعاون عبر الانقسامات المجتمعية لمساعدة بعض مرشحي الإصلاح على الفوز بمقاعد في الانتخابات البرلمانية في وقت سابق من هذه السنة، وهو ما يعدّ مؤشرا على كيفية تشكيل الاختلالات التي طال أمدها لأشكال جديدة من المقاومة والتعبئة والتنظيم في الشرق الأوسط.
وتعد هذه الديناميكيات المماثلة التي تكشفت في العراق، خلال نفس الفترة، واحدة من عدة مؤشرات على كيفية انعكاس الأحداث في لبنان على الاتجاهات الإقليمية الأوسع.
وتنذر الاضطرابات في لبنان على وجه الخصوص بديناميكيات مماثلة في مصر يمكن أن يكون لها تأثيرٌ عالميٌّ أكبر. ففي دولة يصل سكانها إلى أكثر من 100 مليون شخص مثل مصر، سيؤدي التفاعل المماثل بين الانهيار الاقتصادي وزيادة الخلل في وظائف الدولة إلى آثار تراكمية يمكن أن تزعزع استقرار النظام الإقليمي والدولي الهش بالفعل. وحتى في الوقت الذي يحاول فيه نظام السيسي إبراز صورة القوة من خلال مشاريع مهيبة مثل بناء العاصمة الجديدة، فقد بدأت تظهر مؤشرات على مشاكل خطيرة في الشؤون المالية للدولة والاقتصاد بشكل عام في مصر، في صورة تعكس العديد من المشاكل التي يواجهها لبنان.
ومثلما استمرت النخب السياسية اللبنانية في العمل كما لو لم يكن هناك أي مشكلة، حتى مع خروج الاختلالات غير المستدامة عن السيطرة، والتي تتراكم لسنوات، استمرت القيادة المصرية التي تهيمن عليها طبقة الضباط المتميزة في الاختلاس من نظام اقتصادي شديد الفساد ويتجه بسرعة نحو انخفاض أشد في قيمة العملة وأزمة في ميزان المدفوعات.
وما يثير العجب هو نهج نظام السيسي في الرضا عن الذات، وذلك رغم تصاعد مخاطر الانهيار الداخلي لسلسلة التوريد والتضخم المفرط في المجتمعات المصرية، التي تواجه نفس الأوبئة التي غذت الثورة في سنة 2011 ضد مبارك، من نقص العمالة وتحطم البنية الأساسية وانعدام الكفاءة في الحكومة؛ حيث تستمر الدولة المصرية في تبجحها، رغم علامات الضيق المجتمعي المتزايدة، وقد يرجع ذلك إلى قناعتها بأنها أصبحت حصينة بعد أن نجت من كل من الاحتجاج الدولي على المذبحة التي نفذتها في ميدان رابعة لأنصار الإخوان المسلمين في سنة 2013، والضغوط الأمنية على حدودها، والمساعدات المادية من دول الخليج وجولات التقشف التي قللت من الدعم الشعبي. وعلى الرغم من القلق المتزايد داخل وزارة المالية المصرية، يبدو المكون العسكري في مصر مقتنعًا بأن الحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي هو كل ما يتطلبه الأمر؛ لتجنب عواقب الفساد وتجاوزات الجيش الذي قوض الاقتصاد المصري منذ السبعينيات.
ويشير مدى استمرار تفاقم الاختلالات الاقتصادية طويلة الأمد، التي دفعت لبنان إلى الحافة وتهدد مصر الآن، إلى أن الوضع الراهن في الشرق الأوسط لا يزال غير مستقر بطبيعته؛ فموجة الاحتجاجات التي اجتاحت إيران هي تذكير بمدى السرعة التي يمكن أن ينقلب بها الاستقرار الضحل لنظام استبدادي إذا رفضت نخبه إصلاح الهياكل الاقتصادية وهياكل الدولة في مواجهة التغيرات العالمية. ومن المرجح أن يثبت فشل جهود الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو دول الخليج من أجل الحفاظ على الاستقرار في دولة مثل مصر، هذا إذا لم تبد النخب الحاكمة الاستعداد لفعل ما يلزم من أجل توليد الازدهار والحكم الرشيد اللازمين للحفاظ على الشرعية الاجتماعية والسياسية للنظام الحالي.
وختم الكاتب قائلا: "إن الوضوح المتزايد الذي أتى مع مرور الوقت يكاد يكون هائلًا عند المقارنة بين السياسات الحالية للشرق الأوسط وتصاعد المقاومة في سنة 2011، التي جمعت الكثير من المصريين معًا في ميدان التحرير بالقاهرة على أمل مستقبل أفضل. لكن مع الفحص الدقيق يزداد التشابه بين أزمة مصر في سنة 2022 والجمود الاجتماعي الذي شوهد في السنوات التي سبقت سقوط حسني مبارك. وما لم تتقبل النخب المصرية عالمًا تكون فيه الطريقة الوحيدة للبقاء هي التكيف مع التغيير، فإنها ستجد أن المستقبل الذي يقدمه نظام السيسي سيبدو إلى حد كبير مثل ماضي مصر القريب".