في الخامس من الشهر الجاري، وقعت مجموعة الجنرالات الإنقلابيين في
السودان بقيادة عبد الفتاح البرهان، على وثيقة تقضي بتسليم السلطة كاملة للمدنيين،
وما جرى يعادل في السودان ما يسمى بـ "قولة خير" في أمور الزواج، حيث
يقتصر الأمر على ذهاب نسوة من أقارب زوج المستقبل إلى بيت أهل البنت المنشودة،
ليفاتحوهم في أمر الزواج، للحصول على قولة "خير إن شاء الله"، التي هي
الموافقة المبدئية، لتبدأ بعدها الاستعدادات لاستكمال المشروع، وتحديد جدول زمني
لإتمام المراسيم، ولكن قولة الخير تلك ليست ضمانا بأن الزواج سيتم، فقد يحدث خلاف
بين الأسرتين حول المهر والتفاصيل الأخرى، وقد تزوغ عين البنت أو الولد ويتم
العثور على "بديل/ة".
الاتفاق الإطاري الذي توافق عليه عسكر البرهان وتكتل للأحزاب والقوى
المدنية ينص ـ ضمن أمور أخرى ـ على قيام سلطة مدنية بالكامل، وانسحاب الجيش من
العملية السياسية، وحظر تشكيل ميليشيات عسكرية، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش،
ولكن الاتفاق لا يقول متى سيحدث ذلك، ولا يحدد جدولا زمنيا للتوصل إلى اتفاق نهائي
يستند إلى دستور مؤقت.. وقد ظل البرهان حاكما مطلقا منذ 25 تشرين أول / أكتوبر من
العام الماضي، دون أن يفي بأي من الوعود التي قطعها، لأنه، وكما أثبتت سيرته
ومسيرته، غير معني سوى بالوجاهة التي يضفيها عليه مسمى رئيس مجلس السيادة؛ وطالما أن
الاتفاق العسكري المدني الأخير لا يحدد أجلا لتنفيذ بنوده، فقد يظل البرهان يسوف
ويماطل لمدة مفتوحة، يمارس خلالها سلطات مطلقة، وهذا احتمال وارد بقوة، خاصة وان
هناك قضايا شائكة (العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية وتحصين
كبار قادة القوات النظامية من المساءلة القضائية) اُرجأ البت فيها لمرحلة لاحقة.
شرائح واسعة من القوى التي عملت على إسقاط حكم الحزب والرجل الواحد
(المؤتمر الوطني/ عمر البشير)، تعارض الاتفاق الإطاري، ليس رفضا تاماً لجميع
بنوده، ولكن لأنها ترى أن البرهان ونائبه القائد المليشاوي محمد حمدان دقلو حميدتي
لا يمكن الوثوق بهما، لأنهما تعهدا عديد المرات وفي منابر عامة بدعم الحكم المدني،
بل ووقعا على وثيقة دستورية تقضي بذلك في يوليو/ تموز من عام 2019، ثم انقلبا
عليها في تشرين أول/ أكتوبر 2021، وكثيرا ما أوكل البرهان أمر إطلاق التصريحات
الكاذبة والمضللة إلى مستشاره الإعلامي، ففاز الرجل بلقب صحاف السودان، لأنه ينتمي
إلى مدرسة محمد سعيد الصحاف آخر وزير إعلام عراقي في حكومة صدام حسين، والذي كان
يلوي أعناق الحقائق ويزور المعلومات خلال الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
شياطين كثيرة تكمن في تلافيف وتجاويف الاتفاق الإطاري الذي يقضي بخروج العسكر من المشهد السياسي السوداني، ولكن حتى لو اعتبرنا الاتفاق مقابلا لـ "مُقدَّم الصُداق" في أمور الزواج، فلا شيء يمنع انهيار الزواج إذا كان طرفاه قد دخلاه وهما يسيئان الظن ببعضهما البعض، وثقة معظم القوى المدنية في البرهان مفقودة،
قام بالتوقيع على الاتفاق الإطاري هذا عن العسكر حميدتي، بينما ظل
البرهان جالسا في القاعة (هل كان ذلك حتى يتسنى للبرهان التنصل منه لاحقا متعللا
بأنه لم يوقع عليه؟)، ثم فاجأ حميدتي الحضور عندما قال إن انقلاب تشرين أول/
أكتوبر (هو لم يسمه انقلابا بل قرارات أكتوبر)، كان خطأ سياسيا، وبعد ساعات من
انفضاض سامر الاتفاق، قال البرهان في لقاء تلفزيوني إن الانقلاب (القرارات) كان
ضرورة وليس خطأ.
كان البرهان يكذب حتى وهو يدافع عن الاتفاق الإطاري مع القوى المدنية
ويشهد مراسيم التوقيع عليه، فقد أعلن في تموز / يوليو الماضي أن الجيش لن يكون
طرفا في أي حوار يتعلق بمستقبل البلاد السياسي والدستوري، وإنه سيترك الأمر للقوى
المدنية لتتوافق حوله، فإذا به ينخرط في المفاوضات مع الطرف المدني الذي انقلب
عليه في 3 حزيران/ يونيو من عام 2019، ثم في تشرين أول/ أكتوبر المنصرم، وصولا إلى
اتفاق 5 كانون أول/ ديسمبر، بل ما زال البرهان "العازف عن أمور الحكم وتركها
للمدنيين"، يتكلم عن حكومة كفاءات غير حزبية، وسبق له أن أعلن مرارا أن الجيش
سيظل يراقب أي حكومة مدنية ويرصد أداءها، مما قد يعني أنه حتى ولو كانت الحكومة
مدنية بالكامل، فإن أمر بقائها في السلطة بيد الجيش، وأن خروج البرهان وأعوانه من
القصر الجمهوري لن يمنعهم من الانقلاب على الحكم، بذريعة أن الحكومة فشلت في هذا
الأمر أو ذاك، خاصة وأن البرهان أنشأ ما أسماه
المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليضمن بذلك أن امبراطوريته ستبقى بعيدة عن
الحكومة المدنية.
شياطين كثيرة تكمن في تلافيف وتجاويف الاتفاق الإطاري الذي يقضي
بخروج العسكر من المشهد السياسي السوداني، ولكن حتى لو اعتبرنا الاتفاق مقابلا لـ "مُقدَّم
الصُداق" في أمور الزواج، فلا شيء يمنع انهيار الزواج إذا كان طرفاه قد دخلاه
وهما يسيئان الظن ببعضهما البعض، وثقة معظم القوى المدنية في البرهان مفقودة، ولا
تستبعد بعض تلك القوى أن يتنصل البرهان مجددا من أي تعهد وقَّع عليه، وأنه الآن
وفي وجه الضغوط الداخلية والخارجية يتمسكن، حتى يجد سانحة أخرى ليتمكّن مجددا.
جولة حفتر وخطاباته.. أي دلالة؟
هل يريد البرهان حكما مدنيا بلا أنياب؟