سُئلت ذات
مرة عن تكرار كلمة العسكر على لساني وفي مقالاتي، فأجبت بأنها جوهر الدور والوظيفة؛
فهم عسكر حينما تتحول المؤسسة العسكرية وتهتم بالحكم والتحكم وتحاول السيطرة على مقدرات
العباد والبلاد، وبهذا الحال وصف العسكر كحالة سلبية فقد تخلوا عن جوهر وظيفتهم في
حماية الحدود والوجود وحقيقة الحفاظ على الأمن القومي.
وفق هذا
التصور تعيش المؤسسة العسكرية
المصرية حالة من انعدام الوزن، فعلى الرغم من اتساع
سيطرتها على مقدرات البلاد وامتداد هذه السيطرة على كافة مجالات الحياة السياسية
والاقتصادية والإعلامية في المجتمع المصري، إلا أن ذلك -على عكس جميع المؤسسات
الأخرى- لا يعد لصالح هذه المؤسسة أو مستقبلها، خصوصا وأن ذلك بالأساس يخصم من
وظيفتها ودورها الحقيقي المنوط بها.
ما تتعرض له المؤسسة العسكرية من توسع هو ضار بها ويحولها إلى مؤسسة ضد لنفسها قبل أن تكون ضدا للدولة المصرية، فمثل هذه الانشغالات والإشغالات غير المحدودة تؤثر على وظيفة ودور ومهام المؤسسة العسكرية المصرية وتختطفها من بيئتها وسياقها ومحضنها الشعبي والمجتمعي
ومن ثم فإن
ما تتعرض له المؤسسة العسكرية من توسع هو ضار بها ويحولها إلى مؤسسة ضد لنفسها قبل
أن تكون ضدا للدولة المصرية، فمثل هذه الانشغالات والإشغالات غير المحدودة تؤثر
على وظيفة ودور ومهام المؤسسة العسكرية المصرية وتختطفها من بيئتها وسياقها
ومحضنها الشعبي والمجتمعي، وكأن هناك خطة مرسومة وتنفذ بدقة لإبعاد هذه المؤسسة عن
الشعب وتمعن في زيادة الفجوة بينهما، ناهيك عن الممارسات التي يقوم بها بعض صغار
المنتمين لهذه المؤسسة من سلوكيات تزيد من هذه الفجوة، وتكرس هذا الاختطاف مجتمعيا،
وتدفع لأن يكون جذريا وعميقا في المجتمع، خاصة في ظل التجاهل المتعمد لردعها من
قبل هيئات ودوائر هذه المؤسسة.
ومن المهم
أن نشير الى أن الجيش لا يمثل سلطة من سلطات الدولة، بل هو المؤسسة الرئيسة في
حماية الحدود والوجود وأحد أهم العناوين في المناجزة عن حياض الدولة وسيادتها.
بداية الاختطاف
لهذه المؤسسة جرى بالدسترة، حيث حرص السيسي في سبيل تمكين نفسه وقبول الصلاحيات والفترات
الانتخابية التي أرادها في الدستور؛ على أن يقدم الثمن للمؤسسة العسكرية من خلال تمييزها
دستوريا على النحو الذي يمرر بها صلاحياته من خلال التعديل الدستوري الذي جرى عام
2019م، حيث عُدلت المادة (200) الخاصة بالمؤسسة العسكرية بحيث تشتمل على وظيفة
إضافية للمؤسسة تتمثل في "صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات
الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد".
بداية الاختطاف لهذه المؤسسة جرى بالدسترة، حيث حرص السيسي في سبيل تمكين نفسه وقبول الصلاحيات والفترات الانتخابية التي أرادها في الدستور؛ على أن يقدم الثمن للمؤسسة العسكرية من خلال تمييزها دستوريا
هكذا غيّر
التعديل الدستوري من وظيفة ودور ومهام هذه المؤسسة وجعلها مؤسسة فوق الدولة، في
الوقت نفسه الذي حرفها عن وظيفتها الحقيقة وجوهر دورها ومهامها في المجتمع، وهو
أمر سمح للمؤسسة وأفرادها أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة أخرى، نظرة مفادها أن هذه
الدولة لخدمة المؤسسة وتأتمر بأمرها وأمر رجالها. وهذا بات ملمحا عاما في كل ما
يخص هذه المؤسسة؛ بدءا من القوانين والإجراءات والممارسات والسلوكيات التي تربط
بين المؤسسة العسكرية والدولة والمجتمع في مصر.
ومن المقرر في
هذا الباب أن نؤكد على المبادئ الكبرى في تأسيس العلاقات المدنية العسكرية على أسس
رشيدة؛ وأهم هذه العناصر على الإطلاق عدم تماهي العسكري في المدني والسياسي وخطورة
ذلك على مستقبل الدولة والمجتمع. فلا يعقل أن يسند للمؤسسة العسكرية مهمات التشريع
كما رغب المجلس العسكري في إعلانه الدستوري المكمل؛ الذي أسميناه في حينه الإعلان
العسكري المكبل. وغير مقبول أو معقول أن يسند للمؤسسة العسكرية دور رقابة الحالة
الديمقراطية والسياسية، وهو ما فتح الباب واسعا لقيامها بتقويض الحياة السياسية
والمدنية بقيامها بانقلابات عسكرية حينما لا يعجب قيادته العسكرية الأمر.
الفارق بين المؤسسة العسكرية المصرية وغيرها من مؤسسات العالم، أن الانشغال الاقتصادي كمّا وكيفا طغى على جوهر وظيفة المؤسسة العسكرية الحقيقي والجوهري، وبات انعكاسها على المجتمع المصري يعكس صورة سلبية، خصوصا في ظل الإصرار على التورط في قطاعات بعيدة تماما عن الصناعات العسكرية أو حتى اللوجستية
وهناك
العديد من الوقائع المؤسسية والفردية التي تعبر عن هذه الصورة التي باتت لا تخفى
على أحد، ولعل أبرزها وأوضحها انشغال الجيش بالقطاع الاقتصادي، وعلى الرغم من أن
هناك من يبرر هذا المسلك على اعتبار أن العديد من جيوش العالم تسلك نفس المسار وأن
ذلك لفائدة استقلال وحماية المؤسسة العسكرية والحفاظ على مصدر قوتها، إلا أن
الفارق بين المؤسسة العسكرية المصرية وغيرها من مؤسسات العالم، أن الانشغال
الاقتصادي كمّا وكيفا طغى على جوهر وظيفة المؤسسة العسكرية الحقيقي والجوهري، وبات
انعكاسها على المجتمع المصري يعكس صورة سلبية، خصوصا في ظل الإصرار على التورط في
قطاعات بعيدة تماما عن الصناعات العسكرية أو حتى اللوجستية، من مثل قاعات الأفراح،
وكحك العيد، ومزارع الأسماك، وأكشاك الخضروات في الشوارع والميادين العامة وغيرها
من النشاطات، ناهيك عن نظرة الجيش لنفسه وللدولة المصرية بسبب هذا القطاع.
ونستذكر
التصريح الشهير للواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشئون المالية وعضو المجلس
الأعلى للقوات المسلحة سابقا، في صحيفة الشروق المصرية الصادرة بتاريخ 27 آذار/ مارس
2012: "هذا المال/ العرق يؤمن لنا القدرة على حماية مقدرات أمننا القومي"، ناهيك
عن حرص المؤسسة العسكرية على وضع مساحة بينها وبين الدولة المصرية وكأن لها ذمة
مالية منفصلة بعيدا عن الميزانية، ففي الوقت الذي تحرص فيه على الحصول على
ميزانيتها كاملة وبدون تفاصيل أي كرقم "محدد ومصمت"، تقدم قروضا للدولة
المصرية، وفي سبيل ذلك هيمنت على كافة القطاعات الاقتصادية في البلاد، وباتت
تستهدف الحصول على الشركات والمصانع الناجحة وتستولي عليها استيلاء كأنها عصابة
إجرامية، فمن يمتنع عن البيع يكون مصيره السجن والتشهير حتى لو فقد حياته في هذا
السبيل.
لا تتوقف
عسكرة المؤسسة العسكرية للمجتمع المصري على الجانب الدستوري والاقتصادي فقط،
ولكنها تمتد إلى كافة مسارات وأركان المجتمع مدعومة بخطاب المستبد الذي يحرص دائما
على المقارنة والانحياز إلى المؤسسة العسكرية والتأكيد على أنه يثق فيها ثقة مطلقة،
ولا يرى أي مؤسسة أخرى تستطيع أن تقوم بما تقوم به المؤسسة العسكرية، حتى إنه
عندما يقف على مشكلة أو أزمة يسرع بتحميلها إلى الجانب المدني ويصرخ مناديا
"فين المدني اللي هنا؟"، ولذلك نجد هيمنة المؤسسة وأفرادها السابقين
والحاليين على كافة الوزارات المصرية والهيئات والإدارات وخاصة في موقع اتخاذ
القرار.
لا تتوقف عسكرة المؤسسة العسكرية للمجتمع المصري على الجانب الدستوري والاقتصادي فقط، ولكنها تمتد إلى كافة مسارات وأركان المجتمع مدعومة بخطاب المستبد الذي يحرص دائما على المقارنة والانحياز إلى المؤسسة العسكرية والتأكيد على أنه يثق فيها ثقة مطلقة، ولا يرى أي مؤسسة أخرى تستطيع أن تقوم بما تقوم به
وقد رصد
الباحث المرموق يزيد صايغ هذا الأمر في العديد من دراساته المهتمة بالمؤسسة
العسكرية المصرية، ووصفه بـ"جمهورية الضباط"، مؤكدا على انتشار الضباط
المتقاعدين في العديد من الهيئات ومراكز صنع القرار في الهيئات والمؤسسات المصرية.
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ولدت في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، إلا أنها
توحشت في دولة الثالث من يوليو وباتت تدخل في كل مجال ومكان ولم يعد يحدها حدود.
بدرجة من
الدرجات يحرص المنقلب على موضعة نفسه ونظامه ونخبته وهيئاته ومؤسساته داخل المؤسسة
العسكرية مختطفا لها ومحميا خلف دباباتها وأسلحتها، وهو في هذا السبيل لا يتورع عن
تقديم كل ما يمكنه لإرضاء جنرالاتها وضباطها على الشكل الذي يضمن ولاءهم ويخلق
طبقة منتفعة ترى أن استمراره استمرارا لها ودوام امتيازاتها وتحقيق مصالحها، ومن
ذلك صفقات الأسلحة الخارجية التي يستفيد منها المنقلب في كل جانب؛ فمن ناحية تعتبر
رشاوى مقنعة للدول الخارجية وشراء شرعية لها، ومن ناحية أخرى يصنع بها طبقة
منتفعين في المؤسسة العسكرية تديم حكمه وتحافظ على وجوده، وفي سبيل ذلك تهدر كل قيم
ومدركات ومحددات وأسس الأمن القومي المصري.
وهناك من
الوقائع ما تؤكد ذلك، مثل التفريط في بيع تيران وصنافير وإجبار من تحدث بعكس ذلك
على تغيير أقواله، مثل اللواء عبد المنعم سعيد، رئيس هيئة عمليات
القوات المسلحة
الأسبق، وكذلك التراخي المذل الذي تم التعامل فيه مع السد الإثيوبي وعدم اتخاذ أي
موقف معارض يحفظ ماء وجه الدولة المصرية، والقبول بما فرضته أثيوبيا وما أرادته
دون أي مقاومة أو ممانعة، وهو ما لم يتوقعه أعداء الدولة المصرية ولا أصدقاؤها، بخلاف
ما جرى في ليبيا وما جرى في ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وغيرها، وهي أمور
تثبت أن الأمن القومي لم يعد الوظيفة الأولى للمؤسسة العسكرية المصرية.
فقدان الشعب ثقته في المؤسسة العسكرية والتشويه المتعمد لصورة المؤسسة مسؤولية نظام الثالث من يوليو، وفي القلب منه المؤسسة العسكرية نفسها التي قبلت على نفسها هذا الوضع، وأسهمت في عملية اختطافها وفي انحراف أدوارها والتقاعس عن أداء مهامها
فقدان الشعب
ثقته في المؤسسة العسكرية والتشويه المتعمد لصورة المؤسسة مسؤولية نظام الثالث من
يوليو، وفي القلب منه المؤسسة العسكرية نفسها التي قبلت على نفسها هذا الوضع،
وأسهمت في عملية اختطافها وفي انحراف أدوارها والتقاعس عن أداء مهامها. وهو أمر
للأسف الشديد لا يبدو هامشيا أو سطحيا، ولكنه تغلغل في قلب هذه المؤسسة وفي وجدان
الشعب المصري، ولم يعد لهذه المؤسسة أن تعود إلى سابق عهدها بسهولة لأن حرفها عن
أدوارها لم يكن هينا أو قليلا ضمن عملية الاختطاف؛ ذلك أن المؤسسة العسكرية تمارس
زحفا ممنهجا من خلال بعض قياداتها لاختطاف المؤسسات الأخرى بل والسلطات الأساسية
في الدولة، ومظاهر ذلك في القضاء والمحكمة الدستورية والبرلمان والمؤسسة التشريعية
وكثير من مفاصل الإدارة والسلطة التنفيذية.
دور الضد
الذي قامت به هذه المؤسسة أو تعرضت له أمر شديد وبالغ الخطورة؛ حينما تكون هذه
المؤسسة في دائرة دولة الضد.
twitter.com/Saif_abdelfatah