منذ بداية المونديال الذي شهدته العاصمة
القطرية
الدوحة.. والأفكار تراودني للكتابة عنه، تارة عن البهجة التي اكتست بها قطر يوم
الافتتاح، وتارة عن نظام سير مباريات المجموعات وكيف للمشجعين أن يحضروا مباراتين
أو حتى ثلاثا في اليوم ذاته، وكيف حولت قطر "الصغيرة" ـ جغرافيًا ـ نقطة
ضعفها ـ التي لا يد لها فيها حقًا ـ إلى نقطة قوة جاذبة بل ومؤثرة ومرجحة لملفها
الذي قدمته قبل اثنتي عشرة سنة.. لتقول للجمهور إنك ستستطيع الحضور والمتعة لمرة
فريدة كأنها الحلم.. تطوف بين المدرجات والمباريات هنا وهناك في اليوم وبكل أريحية
وانسيابية!
هل جاءك نبأ أن مسؤول الشرطة الرياضية في إنجلترا
قال حرفيًا "للمرة الأولى لم يسجل على أي مواطن إنجليزي أي جريمة أو اعتداء
خلال
كأس العالم". بعدها، قال كثيرون إن هذا بسبب منع الكحوليات عن المشجعين
ما تسبب في حضور الذهن وأدى إلى نتيجة "صفر جريمة".. لكني قلت تعقيبًا
"منعت قطر جرعات الكحول عن المشجعين، لكنها زادت جرعات المتعة الكروية
النادرة والإثارة الرياضية الماتعة"، تُراك نسيت فوز السعودية على
الأرجنتين؟! وسؤال "أين ميسي؟" في أول البطولة الذي رد عليه اللاعب
بنفسه حاملًا كأس البطولة في نهايتها، وهل غابت عنك الجرعة التي طيّرت عقول العرب
في هذه البطولة حين دعس المغرب أعتى منتخبات أوروبا؟ وما إسبانيا والبرتغال منا
ببعيد! وهل رأيت تونس وهي تتغلب على الديوك الفرنسية؟ صدقني إن قلت ـ مع أني غير
مختص بالشأن الرياضيـ إن توقعات المحللين طارت في سماء الدوحة وحطت رحالها في مكان
غير أرض المونديال.
سطرّت قطر من خلال هذا المونديال سطورًا من الإنسانية والاحترافية وتقديم ثقافتنا ـ العرب والمسلمين ـ للعالم أجمع، وقدمت نسخة من كأس العالم حجزت به مكانا في تاريخ كرة القدم لن يمحى وسيصعب على من بعدها تكراره أو حتى الاقتراب منه؛
زادت المنافسة واحتدت.. وزادت قطر من
التنظيم
وجدّت مئات الشاشات، آلاف المتطوعين، ملايين المشجعين.. كل الأماكن مزدحمة لكنها
منظمة، كل الناس مبهورون لكن لكل مكانه وأوانه.. لقد همس في أذني أحد الأساتذة
منبهرًا من جمال ما رأى "لقد تحولت الدوحة إلى استاد كبير".
سطرّت قطر من خلال هذا المونديال سطورًا من
الإنسانية والاحترافية وتقديم ثقافتنا ـ العرب والمسلمين ـ للعالم أجمع، وقدمت نسخة
من كأس العالم حجزت به مكانا في تاريخ كرة القدم لن يمحى وسيصعب على من بعدها
تكراره أو حتى الاقتراب منه؛ ففيه عانقت الأمهات أبناءها على أرضية المعلب مثلما
جرى في مباريات المغرب، وجلس فيه سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أميردولة قطر بين
أبنائه وعائلته بعفوية تامة وأمام الكاميرات لساعات دون تكلف أو تصنع.
نجاح آخر تزيده التناقضات قوة، يتمثل ذلك في
الانسيابية الأمنية غير المسبوقة، كان يُفترض أن تكون الأعداد الكبيرة من الناس في
رقعة جغرافية صغيرة سببًا في صدامات واحتاكاكات وربما شغب بصورة أو أخرى، لكن ما
لمسناه عكس ذلك جملة وتفصيلًا، وأتوقع أن تستفيد الدول الأخرى من التجربة الأمنية
في تنظيم الفعاليات والبطولات المقبلة.
بعد هذا المونديال يظل السؤال: كيف ألبست قطر ـ بمكانها الصغير ـ كرة القدم مكانة كبيرة؟ وكيف استطاعت الدوحة إلباس حدث كهذا
اشتهر عنه ممارسات غير عربية بأخرى عربية؟ بل وبلمسات جمالية بديعة تجسدت في لحظة
إلباس بطل العالم "البشت" القطري في رسالة مفادها أنه ليس هناك وجه واحد
للثقافة ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار، بل ثمة وجوه وحضارات وثقافات ليس العرب أقلها
بل درة تاج وواسطة عقد وفرادة لم يسبق إليها أحد من العالمين!
*صحفي مصري، نائب رئيس اتحاد طلاب مصر السابق