عقب فوز المنتخب المغربي على المنتخب البرتغالي في
برسم تصفيات ربع النهاية بكأس العالم، خرج حوالي 20 ألف مشجع للمنتخب المغربي
تجمعوا في الشانزليزيه في احتفال بفوز فريقهم في قطر، ومر الاحتفال في أجواء جد
سليمة، وتحركت الشرطة الفرنسية لاعتقال حوالي من 70 شخصا استغلوا أجواء الاحتفالات
للقيام بأعمال تخريب مست الممتلكات العامة.
وسائل الإعلام الفرنسية، في البدء، اتجهت إلى نسبة
أعمال الشغب للمشجعين المغاربة، ودعا عدد من الإعلاميين الفرنسيين إلى التصدي لهذه
الاحتفالات، ليس فقط بسب ما رافقها من أعمال تخريب، بل لأنها تثير في الجوهر مشكلة
الانتماء الفرنسي، وكيف يكون حامل الجنسية الفرنسية، يدعم منتخبا آخر غير المنتخب
الفرنسي.
التحقيقات التي أجرتها الشرطة الفرنسية، أظهرت في
الواقع، زيف الادعاءات التي روجها أنصار التيار اليميني المتطرف، وأثبتت أن أعمال
التخريب لم يكن مصدرها بالمطلق هؤلاء المشجعين ذوي الأصل المغربي، لكن لقاء
المنتخب المغربي بنظيره الفرنسي، في مربع الذهب، برسم نصف النهاية كأس العالم،
أشعل النقاش الفكري مرة أخرى، لكن هذه المرة على خلفية الانتماء، فطرح سؤال
مشروعية أن يقوم حامل الجنسية الفرنسية بتشجيع المنتخب المغربي، وهل الولاء
والانتماء يكون لجنسية الأصل أم جنسية بلد الإقامة والعمل؟
وسائل الإعلام الفرنسية.. الانتماء لا يتجزأ
وسائل الإعلام الفرنسية، حاولت في اليومين اللذين
أعقبا فوز المغرب على الفريق البرتغالي تحريك نقاش قوي موجه، حضره عدد من المفكرين
والمثقفين الفرنسيين لمقاربة هذا الموضوع المتعلق بمفهوم الانتماء، وهل يمكن أن
يتمدد إلى فضاء الرياضة، وهل يدخل ضمن اعتبارات الولاء للوطن أم ضمن اعتبارات الحق
في الرأي والميل الشخصي؟ والمثير في الأمر، أن النقاش أخذ منحى آخر، بعد أن تم
تسليط الضوء على طبيعة المباراة، وهل هي مجرد لعبة، أم أنها تعكس أبعادا مختلفة،
دينية ووطنية وسياسية وقيمية، وهل يطلب من الفرنسيين، أو بالأحرى من حاملي الجنسية
الفرنسية، دعم فريقهم ضد الخصم كما يدعمون جيشهم ضد الأعداء، أم أن الأمر يتعلق
بمجرد كرة القدم، يترك فيها الأشخاص لميولاتهم دون مصادرة أم إكراه؟
استقراء عدد من البرامج الفرنسية التي أثارت هذا
النقاش، يفيد بتعدد المقاربات، فمنها من حاول أن ينطلق من تحديد طبيعة اللعبة، وهل
تدخل ضمن الاعتبارات المحددة للانتماء، أم أنها خارجة عنها. في حين حاولت المقاربة
المعاكسة أن تنطلق من تحديد مفهوم الانتماء، وعلاقته بالوطن، ومقتضيات ذلك، لتبني
من خلال ذلك موقفا تسحبه على واقع المباراة باعتبارها حقلا من حقول الاشتباك بين
الانتماءين؟
بعض من المفكرين المنصفين، أو من المفكرين أو
الباحثين المنحدرين من أصول مغاربية، طرحوا فكرة ثالثة، تتعلق بخصوصية الشريحة
التي يتطلب تحليل سلوكها، أي المغاربة، أو العرب المقيمين في
فرنسا، والذين يحملون
جنسية مزدوجة، الأولى هي جنسية البلد الأصل، والثانية هي جنسية بلد الإقامة
والعمل. وأن هؤلاء يحملوا وضعا مختلفا، يجعلهم منقسمين بين ولاءين، تظهر بعض صوره
في الجانب الديني، كما تظهر صوره الأخرى في تعبيرات مختلفة ثقافية وفنية ورياضية.
في الواقع، وحسب عينات من هذا النقاش الذي أخذ
أحيانا طابعا حادا، يبدو أن الرأي الأول والثالث، ينتهي إلى نتائج متقاربة تفسح مجالا
للمرونة والتسامح، بينما يقود الرأي الثاني، وشق مختلف داخل الرأي الأول إلى نتائج
معاكسة تدعم الرؤية الأحادية التي تلزم الجميع بمقتضى انتماء واحد يلغي الانتماءات
السابقة. فالذين يرون أن كرة القدم هي مجرد لعبة رياضية، تتضمن عنصر الانتماء، لكن
من غير أن تذهب به بعيدا فتسد الباب على الميولات التي تنطلق من انتماء آخر أو من
اعتبارات فنية أو رياضية تخالف الانتماء. هذا الرأي، ومثله الرأي الذي يراعى
خصوصية الشريحة التي يخترقها انتماءان، ينتهي إلى تقرير قاعدة التسامح في الانتماء
وعدم إعمال قاعدة الإكراه بحجة وحدة الانتماء أو مقتضياته. في حين، ينتهي الرأي
الثاني، الذي ينطلق من مفهوم الانتماء ومقتضياته، إلى مسح خارطة الانتماءات
الأخرى، ومنع أي تعبير مختلف، ولو انطلق من قاعدة انتماء آخر تدل عليه خصوصية
شريحة معنية.
ثمة شق من الرأي الأول، يستحضر الأبعاد المختلفة
التي أصبحت تشتبك مع كرة القدم، فيرى أن كرة القدم بدلالاتها القيمية والسياسية
والهوياتية، أضحت تمثل حربا من نوع آخر، لا تقل أهمية عن الحروب التي تخوضها
الجيوش النظامية، وتبعا لذلك، فكما يفرض الانتماء والولاء في هذه الحروب، تصير
الازدواجية في الانتماء مدخلا للخيانة، وأن ذلك يوجب المعاقبة والتصدي الأمني.
إريك زمور ممثل جزء من التيار اليميني المتطرف
المنشق عن التيار الأم لم يخف هذه الرؤية، وظل يعبر عن رأي يصادر فيه حق المغاربة
الفرنسيين، أو الجزائريين الفرنسيين، في أن يحتفلوا بانتصار فريق آخر غير الفريق
الفرنسي، زاعما أن ملك المغرب محمد السادس، لن يقبل أبدا بقيام مشجعين فرنسيين
بالاحتفال في مراكش بانتصار المنتخب الفرنسي على المنتخب المغربي!
بين الانتماء والانتماء المزدوج
الواقع أن هذا النقاش يحمل طابعا إشكاليا معقدا،
فبعيدا عن الحقل الذي يختبر فيه مفهوم الانتماء (حقل الرياضة)، ثمة حاجة للتدقيق
في هذا المفهوم، والبحث عن مخرج لمشكلة الازدواجية، إذ يطرح المفكر والإعلامي
الفرنسي أسئلة منطقية، تتعلق بالحقوق التي يكتسبها المواطن الحامل للجنسية
الفرنسية، وأن هذه الحقوق تقابلها واجبات، أهمها التعبير عن الانتماء للوطن والدفاع
عنه، وأنه لا يمكن بحال، أن توفر فرنسا العمل والسكن والحقوق والعيش الكريم لحامل
جنسيتها، ثم يصير بين لحظة وأخرى مناصرا لبلد أخر ضد بلد إقامته؟
ينبغي الانتباه إلى التعقيد الذي يحمله موضوع الجنسية، والذي يعود مرجعه إلى سلوك الدول اتجاه هذه القضية، والدوافع التي تجعلها تتبنى هذه المقاربة أو تلك في موضوع التجنيس.
والحقيقة أن مناقشة هذه الفكرة، يتطلب التدقيق في
عدد من الحيثيات. أولها، العلاقة بين جنسية الأصل وجنسية الإقامة، وهل تكون
الثانية ناسخة للأولى، أم متعايشة معها؟ وثانيها، يتعلق بمفهوم الانتماء، وهل هو
مفهوم حصري يهم فقط قضايا الدفاع والسيادة والأمن، أم مفهوم شامل، ينسحب على كل
المجالات والتعبيرات؟ وثالثها، يتعلق
بعلاقة جنسية الإقامة بالحقوق، وهل تتعامل الدولة الفرنسية مع حاملي جنسية الإقامة
كما تتعامل مع ذوي الأصل الفرنسي، أم أن سلوك الدولة الفرنسية كما الدول الأوربية
الأخرى، تعكس تراتبية في تقدير مفهوم الجنسية، يترتب عنها تمييز في الوظائف
والفرص، بما يجعل التكافؤ بين المشاركين في الجنسية الواحدة غير حاصل لاسيما في الفرص
والمواقع والمسؤوليات؟
هذه الأسئلة مهمة لأنها تفسر جزءا كبيرا من
المشكلة، ويقدم الجواب عنها أرضية مناسبة لمحاولة تفكيك هذا الإشكال ومحاولة
الجواب عنه.
جنسية الأصل والإقامة بين النسخ والتعايش
ينبغي الانتباه إلى التعقيد الذي يحمله موضوع
الجنسية، والذي يعود مرجعه إلى سلوك الدول اتجاه هذه القضية، والدوافع التي تجعلها
تتبنى هذه المقاربة أو تلك في موضوع
التجنيس.
بعض الدول حاسمة في موضوع الجنسية، وتعتبر أنها
مقدسة، لا يمكن بأي حال من الأحوال منحها لغير أبناء البلد، ولذلك تضع قيودا جد
متشددة على قبول طلب الجنسية، إلى الدرجة التي تصير هذه القيود سببا في إعاقة
اجتماع شمل أسر، لاسيما التي اختارت الزواج المختلط (الزواج من أجنبي). والبعض
الآخر، دفعته أحوال مختلفة سياسية واقتصادية وأحيانا أمنية وعسكرية أو حتى
استراتيجية لتوسيع سياسة التجنيس.
لا يهمنا التوقف على الدوافع الاستراتيجية التي
دفعت بعض الدول لتبني سياسة جد منفتحة في التجنيس بغية إحداث تحولات إثنية أو
ديموغرافية أو دينية مرجوة، كما لا يهمنا أيضا التطرق لسياسية بعض الدول التي
حركتها دوافع عسكرية لتغيير منطلقاتها في سياسة التجنيس كما حدث لروسيا مؤخرا في
سياق حربها على أوكرانيا، لكن ما يهمنا في هذا المقال، هو الاعتبارات
الاقتصادية والديموغرافية التي دفعت أوربا
لاستقطاب كم هائل من المهاجرين العمال أو من الأطر والأدمغة، وتمكينهم من الجنسية،
حتى يكونوا اليد العاملة أو الكفؤة لتحريك
عجلة الاقتصاد، ومنع النزيف الديموغرافي في أوروبا.
فرنسا، كانت من الدول السباقة لاستقبال موجات من
المهاجرين المغاربيين، وقد شكلت الدوافع الاقتصادية المبرر الأساسي لتوسيع سياسة
تجنيس هؤلاء، ولم يكن ضمن شروطها القانونية، لمنح الجنسية التنارل عن الجنسية
الأصلية، بل غضت الطرف بالمطلق عن هذا الموضوع، واكتفت بالإضافة إلى الرشد والشروط
المسطرية المتعلقة بمدة الإقامة بفرنسا بفرض التوقيع على ميثاق حقوق وواجبات
المواطن الفرنسي على طالب الجنسية، والتي تعكس في الجوهر روح إعلان حقوق الإنسان
والمواطن الصادر في 26 آب/أغسطس 1789.
هذه الحقوق في الجوهر أو بالأحرى الواجبات، لا
تشير لا من قريب ولا من بعيد لهذه النازلة، بل على العكس من ذلك، فإن ما تضمنه هذا
الميثاق، يقر بالحق في ممارسة الحرية بشرط ألا تؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير،
ويشترط في الضرر المعتبر لتقييد الحرية أن يكون منصوصا على منعه بمقتضى القانون،
كما ينص على عدم الحق في مصادرة الحق في الرأي ولو كان دينيا، شريطة ألا يخل
الإعلان عنها بالنظام العام المحدد وفقا للقانون.
فرنسا، كانت من الدول السباقة لاستقبال موجات من المهاجرين المغاربيين، وقد شكلت الدوافع الاقتصادية المبرر الأساسي لتوسيع سياسة تجنيس هؤلاء، ولم يكن ضمن شروطها القانونية، لمنح الجنسية التنارل عن الجنسية الأصلية،
واضح أن
الاعتبارات البراغماتية التي أملت توسيع سياسة التجنيس في دول أوربا، وفي فرنسا
خاصة، سمحت بقدر كبير من المرونة، وذلك لتشجيع التجنيس، وسكتت عن موضوع الجنسية الأصلية، ولم تدخل في الركن الضيق باشتراط إلغاء الجنسية
الأصل أو مقتضياتها لتسليم جنسية الإقامة (مقاربة النسخ)، واعتمدت بدلا عن ذلك مقاربة التعايش والتكامل، وهو ما تؤكده سياسة الدولة اتجاه الجالية المغاربية والعربية والإسلامية، إذ نحت
في الجانب اللغوي والديني منحى آخر، غير ما تقتضيه مقاربة النسخ التي تفرض اللغة والقيم الفرنسية على الأقليات
المختلفة.
الانتماء بين المفهوم الحصري والمفهوم الشامل
اتضح مما سبق أن سياسة التجنيس الفرنسية اتجهت في
موضوع التجنيس في منحى التعايش وتقدير الاختلاف، وانعكس ذلك أيضا في سياستها اتجاه
الجاليات العربية والمغاربية، إذ أقرت بجانب مهم من الخصوصية في المجال الديني
والثقافي واللغوي، وهي قضايا تحمل على الاختلاف، وتندرج ضمن احترام الحقوق الدينية
والثقافية واللغوية للأقليات العربية والإسلامية بفرنسا.
هذه الخصوصية تعكس في الجوهر تبني مفهوم منفتح
للانتماء، بل تدخل عناصر جديدة ضمن مقتضيات هذا الانتماء، لم يكن للفرنسيين من قبل
عهد بها، فالدين الإسلامي أضحى دينا معترفا به في فرنسا، وأصبح يشكل جزءا من
الهوية الفرنسية، بل إن فرنسا قبلت بنوع من التنسيق مع دول أخرى (المغرب والجزائر
وتونس وتركيا) في تدبير الحقل الديني داخل أراضيها مع أن الأمر يمثل بالنسبة
لإسبانيا مثلا قضية سيادية لا تقبل تدخل دولة أخرى في الضفة الجنوبية فيها. وهو ما يفيد بأن فرنسا، انتهجت سياسة
براغماتية، قبلت فيها نوعا من المشاركة في إقامة صيغة لممارسة التدين داخل أراضيها
وبما يمنع ظاهرة التطرف ويحاصر الجماعات العنيفة.
هذه الحيثيات، إلى جانب الحيثيات الأخرى المرتبطة
بالسياسة البراغماتية في التجنيس، تعكس في الجوهر تبني مفهوم حصري للانتماء، يحصره
فقط في قضايا الدفاع والأمن والسيادة، ولا يعديه إلى جوانب أخرى إشكالية تتعلق بالثقافة
والدين والفن، مما يشكل العناصر الأساسية للهوية الأصلية. ولم يسجل إلا جانب واحد
متطرف في حقل الثقافة أو الدين في السلوك الفرنسي، شكل الزي الإسلامي في المدارس
العمومية عنوانه البارز، إذ تم اعتبار حجاب المرأة المسلمة -بتأويل معين-مناهضا
للعلمانية، وهو الموضوع الذي لم يحظ بإجماع الفرنسيين، وأغلب الظن أن دوافعه كانت
سياسية أكثر منها قانونية وحقوقية.
في النقاشات التي اندلعت على خلفية المنافسة
الكروية، كانت الآراء تصاغ بقدر كبير من النسبية حول مفهوم الانتماء ومقتضياته،
ولم يحصل أي تواطؤ مدعوم بنص قانوني أو دستوري يوجه مفهوم الانتماء في اتجاه معين،
بل بقي الرأي المنفتح على تعدد الانتماءات والحق في تشجيع أي فريق، مسنودا بحرية
التعبير المقررة دستوريا، وكانت الآراء المتطرفة التي تحاول ممارسة التجييش لتبرير
المنع، فاقدة للسند القانوني والدستوري، ولم تتعد في غالبها المشاغبة الإعلامية.
ما يثبت ذلك، أن المدرب السابق للمنتخب المغربي،
الفرنسي هيرفي رونار الذي يحمل الجنسية الفرنسية، ولا يحمل الجنسية المغربية، قرر
أن يشجع الفريق المغربي، ولم يطله أي انتقاد أو تجريح يمسه في انتمائه أو ولائه
لوطنه، لسبب بسيط أن مفهوم الانتماء، لا يشمل الأحاسيس والمشاعر والميولات
الرياضية والفنية، وإنما يحمل في تقدير المزاج الفرنسي مفهوما حصريا لا يتعداه إلى
غيره.
هل تمنح فرنسا لمواطنيها نفس الحقوق لتبني
الانتماء الواحد في نفوسهم؟
هذا السؤال في الجوهر لا يبرر التمرد على الانتماء
لبلد الإقامة، لكنه في الواقع يقدم التفسير الحقيقي لهذه الظاهرة؟ ولماذا صدمت
فرنسا في مواطنين فرنسيين من أصول مغاربية أو عربية، يشجعون منتخب الأرجنتين ضد
بلدهم؟
المنصفون من بعض مفكري فرنسا ومثقفيها وإعلامييها يقيمون الروابط الضرورية بين مفهوم الانتماء وبين الشعور بالمواطنة، كما يقيمون الصلة الوثيقة بين الشعور بالمواطنة، والشعور بالمساواة في التعامل بين بني الوطن الواحد.
البعض يعتقد أن المشكلة تتمثل في تجسيد مفهوم
الانتماء عندما يتعلق الأمر بمباراة لكرة القدم بين منتخب عربي ومنتخب فرنسا، لكن
الصدمة كانت قاسية، عندما خذل هذا الانتماء عند مباراة الفريق الفرنسي مع الفريق
الأرجنتيني، وبدأت بعض وسائل الإعلام تحاول التغطية عن هذا التفسير بالبحث عن
نفسية العداء التي يكنها أبناء البلدان المستعمرة لمستعمرهم الفرنسي، والحال، أن
هذا التفسير هو مجرد استدعاء لاعتبارات تاريخية، للتغطية على قضايا سياسية وحقوقية
جوهرية. فثمة ظاهرة جديرة بالتأمل في تفسير قلق الانتماء في المجتمع الفرنسي، تعود
إلى سياسة الازدواجية والتراتبية في التعامل مع المواطنين الفرنسيين، بل تعود إلى
السياسية العنصرية الإقصائية التي تمارس ضد مواطنين فرنسيين يحملون جنسياتهم
الأصلية، إذ يسلبون من حقهم في بعض المواقع، وبعض الفرص الاقتصادية، ويتم تبني
معايير انتقائية ظالمة في الترقي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويعتمد مفهوم
العرق في الإدماج الاجتماعي، كما يعتمد معيار الدين في ممارسة الإقصاء من
المسؤوليات والمواقع، ويتم تفضيل غير الأكفاء من المواطنين الفرنسيين الأصليين في
مقابل إقصاء الأكفاء من المواطنين الفرنسيين من أصول مغاربية، ويتم تخصيص المواقع
والمهن الوضيعة لهؤلاء، مما يخلق شعورا بالحرمان والتهميش والإقصاء، فيضعف
الانتماء للوطن، ويظهر ذلك عند أول اختبار.
المنصفون من بعض مفكري فرنسا ومثقفيها وإعلامييها
يقيمون الروابط الضرورية بين مفهوم الانتماء وبين الشعور بالمواطنة، كما يقيمون
الصلة الوثيقة بين الشعور بالمواطنة، والشعور بالمساواة في التعامل بين بني الوطن
الواحد.
ضمن هذه القضايا الثلاث ينبغي أن نفهم التوتر الذي
يشكله الانتماء المشترك لدى ذوي الجنسيات المزدوجة، والصورة المنفتحة والمعتدلة التي ينبغي أن
يحملها مفهوم الانتماء، والتعايش الذي
ينبغي أن تتسع له صدر العلمانية الفرنسية، والجهد الذي ينبغي للسياسة الفرنسية أن تبذله لإقرار المساواة في التعامل،
لبناء قاعدة انتماء موحد يندمج فيه أصحاب الجنسيات الأخرى، ويرون أن جنسية الإقامة
تعاملهم كمواطنين فرنسيين على قدم المساواة مع إخوانهم، وأنهم يتمتعون بنفس
الحقوق، ويتمتعون بنفس الفرص، ويترقون بشكل
مساوي للفرنسيين الأصليين في كل المواقع والمهن والمسؤوليات، وذلك بغض النظر عن
دينهم أو ثقافتهم أو بلدانهم الأصل.