على منحنى هذه الليلة واليوم التالي، يعبر العالم من سنة حرب أوكرانيا إلى عام التحفز الأوسع في 2023 وما يليه، كانت المقدمات لاهثة، ومترافقة مع تغييرات جوهرية سبقت، أعيد فيها وبها توزيع موازين السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا، وفي وهج نيران
الحرب المتصلة في أوكرانيا، تبدو المصائر معلقة، وتتسع ميادين الصدامات المفترضة، وترسم خرائط حروب باردة مرشحة لانفجارات ساخنة.
في نقطة الفوران الأوكرانية، لا تبدو النهايات قريبة، ولا مفاوضات السلام دانية القطوف، فقد تطور الطابع العالمي للصدام بالنار في الميدان الأوكراني، وصارت المبارزة حدية أكثر بين موسكو وواشنطن، ووصلت إلى صيغ تهديد بضربة «قطع الرأس» من دوائر في البنتاغون، فهمتها روسيا على أنها خطط أمريكية لاغتيال الرئيس فلاديمير بوتين، وردت موسكو بأن علاقات البلدين تقترب من حافة الصفر، وأعلنت عن تغييرات في عقيدتها العسكرية، تتوسع في حالات اللجوء الأول لاستخدام السلاح النووي، مع تأكيد دخول صواريخ «أفانغارد» و«بولافا» و«سارمات» إلى الخدمة بأعداد كبيرة، وهي الموصوفة غربيا بأنها صواريخ «الشيطان» و«يوم القيامة»، وكلها تفوق سرعة الصوت بعشرات المرات، وأي إطلاق لها يدمر «الدول غير الصديقة» بالتعبير الروسي في نصف ساعة، ولدى روسيا كما هو معروف أكبر ترسانة نووية في العالم، وعلى مدى عشرة شهور سابقة منذ بدء الحرب، لجأ بوتين على الدوام إلى تكتيك التلويح بالحافة النووية، وعلى قاعدة نظرية حليفه الفيلسوف القومي الروسي ألكسندر دوجين، وقوله؛ إنه لا معنى للعالم دون روسيا عظيمة، وإن كان بوتين المسؤول سياسيا، لا يقول صراحة إنه سيشن حربا نووية، يعرف أن كل الأطراف فيها خاسرون مع الآخرين، ففي العالم مخزون أسلحة نووية، يكفي لتدمير العالم 14 مرة.
أمريكا مؤهلة للبقاء قوة عظمى بين متعددين في العالم بتوازناته الجديدة، لكنها بالتأكيد لن تظل «القوة العظمى، أو الأولى بين الأقوياء القدامى والجدد.
وتحت سقف الحرب النووية غير المحتملة، تضاعف سباق السلاح التقليدي، وزادت واشنطن ميزانيتها العسكرية إلى 850 مليار دولار سنويا، بينما قررت موسكو مضاعفة إنفاقها الحربي لعام 2023، ودارت مصانع سلاحها بطاقتها القصوى، وقال بوتين؛ إنه يستعد لحرب متطاولة الزمن في أوكرانيا، قد تتطور فيها أهدافه المعلنة، وتتجاوز قراره بضم المقاطعات الأربع في شرق وجنوب أوكرانيا، والانتقال من مرحلة استنفاد مخزونات السلاح السوفييتي القديم، وإدخال الأسلحة الأحدث الأكثر تطورا، والتعهد بتدمير منظومات صواريخ «باتريوت»، التي قررت واشنطن مؤخرا منحها لجيش الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يصادف أياما ومعارك «صعبة ومريرة» على حد وصفه، فالروس لا يحاربون على منوال «الصدمة والرعب»، ويتقدمون مترا مترا، ولا يبدون في عجلة من أمرهم ويتحركون بنفس متمهل، في غارات لتدمير البنية التحتية العسكرية والمدنية لأوكرانيا، قد يلجؤون بعدها إلى هجوم عاصف خلال الشتاء أو في نهاياته، ويعتمدون بالتوازي على تكتيكات استنزاف اقتصاد الغرب وأوروبا المنهكة بالذات، بعد أن بلغت التكاليف المالية المعلنة لدعم أوكرانيا من الأمريكيين والأوروبيين إلى ما يجاوز 120 مليار دولار حتى اليوم، ثم مضاعفة الأعباء والتكاليف الغربية، بعد قرارات تسقيف أسعار الغاز والبترول الروسي، فإضافة إلى تنامي الأسواق البديلة لموارد الطاقة الروسية، صدم بوتين الدوائر الغربية بإعلان وزرائه عن خفض إنتاج البترول، بما يشعل الأسعار في السوق، مع حظره لتصدير البترول الروسي إلى دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي وأستراليا، مع منح الرئيس الروسي فرصة للمناورة، وحقوقا لاستثناء من يريد وقت الحاجة، وتهيئة الاقتصاد الروسي لتحمل عواقب 12 ألف صنف من العقوبات الغربية، وتمتين التحالف مع الصين، وتطور مظاهر وجواهر عمل القطب الصيني ـ الروسي متعاظم التأثير، من قلب أوروبا إلى المحيط الهادئ والقطبين الشمالي والجنوبي، ومطاردة الهيمنة الأمريكية الغربية في عوالم آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتعالت حدة صرخات الأوروبيين من استغلال أمريكا لظروفهم، والمغالاة الفلكية في أسعار الطاقة البديلة للموارد الروسية، وتضاؤل ثقة حلفاء أمريكا الأطلنطيين وغيرهم في مقدرة واشنطن على ضمان حمايتهم وأمنهم الاستراتيجي.
وفي مجرى دراما تغيير العالم، والتحول المطرد من مرحلة القطب الأمريكي الحاكم الأوحد، إلى دنيا تعدد الأقطاب، يبدو «مكر التاريخ» حاضرا بوضوح، فكثيرا ما يحدث في حياة الأفراد والجماعات والدول وحتى النظام الدولي، أن طرفا ما يتصور أنه ذاهب ليبني قصرا، فإذا به يكتشف فجأة، أنه ذهب ليحفر قبر النهاية لا قصر الخلود، والمثال صالح لإضاءة حالة أمريكا اليوم، فهي تتصرف بشراسة «حلاوة روح» الثيران في أوان الذبح، وتضرب عشوائيا، ربما تلبية لخوف غريزي من فقدان تحكمها في عرش العالم، اقتصادا وسلاحا وتكنولوجيا، صحيح أنها مؤهلة للبقاء كقوة عظمى بين متعددين في العالم الزاحف بتوازناته الجديدة، لكنها بالتأكيد لن تظل «القوة العظمى» بألف ولام التعريف، ولن تكون الأولى بين الأقوياء المتعددين القدامى والجدد، وحلفاؤها وتابعوها منذ نهاية الحرب «العالمية» الثانية، لم يعودوا في حال اطمئنان لسلام دائم تفرضه القوة الأمريكية، والأمثلة ظاهرة، بدءا من أوروبا الحليف الأوثق، ففرنسا تواصل احتجاجها، وربما تمردها، على ضمانات المظلة الدفاعية الأمريكية، وتسعى لمظلة دفاعية أوروبية. وألمانيا الأثقل وزنا في الاقتصاد، تتطلع للتخلص من تدابير أمريكية فرضت عليها بعد هزيمة النازية، كانت تمنعها من تضخيم جيشها وقوتها العسكرية، قررت قيادتها تخصيص 120 مليار يورو سنويا لتحديث جيشها، مع نمو ملحوظ للنزعة النازية واستعادة مجد «الرايخ الرابع» في أوساط الجمهور الألماني. واليابان على الجانب الآخر من العالم، تواصل عملية فك القيود عن تسليحها العسكري، التي كانت فرضت بمقتضى دستور الجنرال الأمريكي ماك آرثر، بعد سحق طوكيو وقصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية الأمريكية. وتحرر اليابان وألمانيا من عقود «الإخصاء العسكري»، يلقى ترحيبا ظاهرا اليوم من واشنطن، رغم مغزاه الصارخ في خرق وإطاحة ترتيبات النظام الدولي الذي صاغته أمريكا، وتقبل واشنطن التراجع عن ما كان يبدو تعبيرا بليغا عن عجزها منفردة في حماية الحلفاء والتابعين، وعلى ظن أن تزايد قوتهم في صالحها وقتيا، لكن جوهر ما يجري في ما نظن، أن عودة اللباس العسكري الألماني والياباني، وما يصحبه من عودة الروح القومية في البلدين بعد طول انقطاع، يعيد رسم حدود التمايز في المصالح، على نحو ما ذهبت إليه القيادة الألمانية في عصيان الأوامر الأمريكية، بضرورة حصار المنافس الصيني الأكبر، وتفضيل برلين للتوسع في علاقاتها الاقتصادية مع بكين، مقابل حرص واشنطن على فرض جمارك مضافة على واردات المنتجات الصينية، وحظرها لنشاط شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى، والضغط على الحلفاء والتابعين الكبار والصغار لقطع التواصل مع الصين، التي صارت مصنع العالم الأول، وصاحبة أكبر فوائض تجارية مع أغلب مناطق العالم، بما فيها أمريكا نفسها، وهو ما يغذي ميول القلق وشق عصا الطاعة لأمريكا في جهات الدنيا الأربع، وبما يدفع واشنطن لإشعال الحرائق وبؤر التوتر الحربي، على نحو ما حدث ويحدث في صدام كوسوفو مع صربيا، وفي شرق آسيا من حول قضية تايوان، التي تصر الصين على استعادتها في اللحظة المناسبة، وتواصل استعراض قوتها على شواطئها، وفي أجوائها، وتضاعف وتيرة مناوراتها العسكرية المشتركة مع روسيا، وترخي الحبل لكوريا الشمالية في التجارب النووية والصاروخية، وتحمي نشاط «بيونغ يانغ» بضمانات «الفيتو» الصيني والروسي في مجلس الأمن الدولي، وإلى حد أن أطلقت كوريا الشمالية طائرة عسكرية مسيرة أخيرا في سماء عاصمة الجنوب سيئول، ومن دون أن تتمكن دفاعات كوريا الجنوبية المدعومة أمريكيا من إسقاط الطائرة المغيرة، وبما دفع وزارة الدفاع في كوريا الجنوبية إلى تقديم اعتذار لشعبها عن الحادث، وهو ما يوحي لحلفاء أمريكا في المحيط الهادئ وحول بحار الصين الشرقية والجنوبية، أنه لم يعد من عاصم أمريكي ضد الخطر، وأن الحروب التي تعجل بها واشنطن، ليست مضمونة النتائج لصالحها، وأن الذهاب لحروب عسكرية مستعجلة مع الصين، قد يحفر قبور النهايات لاقتصادات، تهمها المصالح التجارية في الأساس، وقد تكتشف أن بناء الجسور مع الصين أكثر أمانا وأقل كلفة، وشيء من ذلك يحدث في نطاقنا الإقليمي الأقرب، وقد لا يصح معه إغفال نذر حرب واردة، تهدد بها واشنطن وتل أبيب ضد إيران، بعد انتكاس مفاوضات تجديد الاتفاق النووي الإيراني، خصوصا بعد عودة بنيامين نتنياهو بحكومة هي الأشد تطرفا وعدوانية، وخطته لجر أطراف عربية إلى حرب مع طهران، والاحتمالات الراجحة بانفجارات أفدح دموية على الجبهة الفلسطينية، في سنة جديدة مثقلة بدواعي التحفز على النطاق العالمي كله.