الجهاز المعرفي
في
المجتمعات كافة هو كم من المعلوماتية والمعايير التي ترسخ في المجموعة البشرية
لتشكل ما يمكن أن نسميه مجتمعا، وان كانت كمية الاختلافات والتناقضات في محتواه
كبيرة حجما ومتسعة مسافة ما بين اليمين واليسار، لكنها تتفق في أنها تنظر إلى
الأمور وكأنها ثوابت وتميل لتقديس كل شيء، فكرة أو رأي، وهذا لا يختلف كثيرا في
التطبيق العملي ما بين متعدد الأفكار لأن من يتحكم بها الغرائز وليس إعمال
المنظومة العقلية.
"حاول
أن تتعلم شيئاً واحداً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء واحد"
(توماس هنري).. هذه المقولة حصرت
الثقافة وجعلت نغمة فكرتها بالتطبيق سدا منيعا أمام
التغيير
والتطوير. ولست بصدد مناقشتها لكنها مقولة رنانة، محتواها مقفلا في أوله وطوباويا
في آخره، فمعرفة كل شيء عن شيء قد تتخذ في إيقاف الجديد المبتكر عن التبني في
مجتمعات لم تبلغ النضج أو تقع أمام من يظن أن معرفته هي المعيار وأن لا جديد إلا
ما ينتجه.
أما تعلم شيء عن
كل شيء وعزوف الناس في مجتمعنا عن القراءة الجادة، فهو سيلتقط شيئا عن كل شيء وفق
فهمه وطبيعة الجهاز المعرفي والميل للتقديس وتعاريف معنى الثبات على الرأي
والمتانة، ومصداقية المعلومة بثباتها وليس بتطويرها، فسنجد حتما أناسا يتحدثون ويناقشون
المختص في اختصاصه ويسفهون رأيه، وهم لم يتعلموا إلا معرفة انطباعية عن شيء مما هو
مختص به، بل هذا الشيء ستجد له أفهاما متعددة وربما تسبب جدلا عقيما، فليس هنالك
استعداد لنزع القدسية عن المعلومات المكتسبة.
الجهاز المعرفي
عند مجتمع ما يقف أمام التجديد وقبول التغيير خصوصا إن لم يفهم بان التحديث من
مقوماته؛ كما يجهل المسلمون وجوده في الإسلام، بل الفهم بضده رغم وضوح نصه. وغالبا
ما ينتقل الجهاز المعرفي مع الإنسان وإن تغير المجتمع الذي يعيش فيه، وهنا تبدأ
عملية من الصراع قد تفشل في التفاهم مع المستجدات فتبدأ هجرة معاكسة ليعود الإنسان
إلى حيث هاجر عن بلده أو مجتمعه الأول.
الانتقاد والنقد ما بين القيمة والسلوك
حينما نتحدث عن
السلوك السلبي وننتقده هو أو أي ظاهرة أو تصرف أو سلبية في مجتمع ما، فإننا لن
نحدث التغيير لأن تبيان المشكلة لن يحل المشكلة أو يفرض حالة التغيير عليها، بل
تبقى مسألة رأي مصطدمة بالجهاز المعرفي الذي يتبنى السلبية التي يراها أي من
يشخصها، وهي في الحقيقة إفرازات التهاب لمرض مجتمعي نتيجة تكلس الرتابة وعجزها عن
المواكبة لحديث حاصل أو تحديث مطلوب.
لذا، فلا بد
عندما نعالج أو ننتقد أي ظاهرة أو فكرة، أن نبين الإيجابية والسلبية وما هي تكاليف
التغيير أو إلغائها المادي أو المعنوي. وهذا مؤشر للتغيير المطلوب فعلا وتحديد
اتجاهه ضمن دراسات، ونقله إلى المجتمع بخطاب عقلي لا يناقش السلبيات بأسلوب
الانتقاد وإنما يوضح التغيير الفكري ويزرع القيم الجديدة والفهم الجديد. وسنجد أثر
ذلك حتما تدريجيا في تغيير السلوك بقناعة لتحل منظومة صالحة محل أخرى، وهنا لا بد
أن نكون حريصين على أن لا نقنع الناس بأنهم سيمتلكون الحقيقة أو أن ما تعلموه من
الثوابت، وإنما هي الحياة تعني التغيير بالنقد لا الانتقاد، والمفهوم وليس السلوك
الذي ينفلت عادة عندما تستثار الغرائز "كحب التدين، التملك، النوع، السيادة).
مؤسسات
الثقافة
لمؤسسات الثقافة
دور كبير مهمل في واقعنا، بل مشوه، فعندما تتحدث عن الثقافة نضع انطباعا ذهنيا أنها
الموسيقى والغناء والفلكلور وغيرها، بينما لا تجد الفكر الذي ينشئ السلوك الذي
بدوره يظهر معالم ثقافة الأمم سواء بتأثير قيمي عميق حضاري أو بتأثير قيمي متمدن.
هذا السلوك يأتي
من بناء الفكر ومهمة الإنسان كوجود لوجود أهمية لوجوده؛ وهذا يتطلب حوارات هادفة
وتطويرا للفكر البشري وشرحا للمهام الآدمية، وكيفية التعامل معها سواء كفرد أو
مجموعة أو مجتمع بدولة وقوانين، وما هو مطلوب من المجتمع كوجود. وهنا تكون مؤسسات
الثقافة فاعلة عن طريق نشر الأفكار التجديدية التي تعيد الأمل والثقة للإنسان
بذاته وأهمية كينونته وأهميته كآدمي، بإرساء برامج هادفة إحيائية بالتوأمة وقنوات
بكفاءة قناة الجزيرة مثلا.
إنك لن تكافح سوء
الخلق بانتقاده، ولا المخدرات بتبيان مساوئها، ألم ترَ أن علبة السجائر كتب عليها أن
التدخين يؤدي للسرطان فأصبح المكتوب عليها تلك العبارة هي المفضلة للمدخن!
إنما مكافحة
السلبية تأتي من خلال دراسة نفسية المجتمع وما هي أسباب إدمان البعض أو شذوذ
تصرفاتهم أو خلقهم أو سلوكياتهم، وهنا تأتي الأمور عن الجوانب القانونية والردع
والتثقيف من طرف آخر، لان الردع يثير الغرائز الحاكمة، أما الإرشاد فيخاطب
المنظومة العقلية والمنظومة العقلية لا تخاطب عندما تغيّب
إن
الشجرة المريضة تصبح عشّا للحشرات تضع في شقوقها بيوضها وعلى لحائها تتغذى اليرقات..
ولا يمكن أن تزال تلك الحشرات بالكلام عن مساوئها أو التقاطها بالملقط بل بمبيد
للحشرات، لكن طلي الشجرة للوقاية لا ينفع إلا السليمة.