تكوين المجالس الاستشارية من قبل أنظمة الحكم أصبح موضة عالمية، وككل موضة فانها تخضع للإضافات، أو الاجتزاء، أو التشويه المتعمد، أو الاستعمال الانتهازي السياسي كقناع يخفي كل أنواع الأهداف الخفية.
في معظم بلدان العرب التي تبنت تلك الموضة يوجد في الأغلب هدفان رئيسيان: الأول هو الإصرار على تساوي سلطة نظام الحكم، التي تهيمن على أعضاء المجلس الاستشاري تعييناً وإنهاء، مع سلطة الشعب، التي تنتخب وتسائل وتجازي، ما يختص بالتأثير المباشر وغير المباشر على
النظام التشريعي والسلطات التشريعية. فإذا اتخذ البرلمان المنتخب قراراً لا يعجب سلطة نظام الحكم عمدت إلى جعل المجلس الاستشاري يعارض ذلك القرار ويسقطه. وهكذا تبقى سلطات التشريع في يد سلطة الحكم التنفيذية، وتصبح مقولة إن الشعب هو مصدر السلطات، نكتة جارحة لما يسمى بالنظام الديمقراطي في هذا البلد أو ذاك. وبالطبع فان ذلك سيعني أن القرارات الكبرى، مثل الحرب والسلام، وفرض الضرائب، وتنظيم كل جوانب الحياة المجتمعية وغيرها، هي في الحقيقة في يد أقلية مستندة إلى المال أو الوجاهة أو الولاءات الفرعية. والواقع أنه إذا كان لا بد من وجود جهات علم وخبرة لاستشارتها، فلتكن قائمة على أساس صفتها الأساسية: الاستشارة غير الملزمة وغير المنحازة وغير المتلاعب بها، من خلال تكوين لجان أو مؤسسات من العلماء والاختصاصيين وذوي الخبرة المشهود لهم بالنزاهة والاتزان. أما إذا كان لا بد من وجود المجالس الاستشارية شبه البرلمانية، بقصد تحسين العملية الديمقراطية، فلا بد أيضاً من وجود نظام يبين نوع القرارات التي لا تنفذ إلا بعد مناقشتها من قبل قوى المجتمع، ثم طرحها على
الاستفتاء الشعبي الحر الشفاف. عند ذاك نطعم النظام البرلماني الديمقراطي، أي الديمقراطية الانتخابية غير المباشرة، بنظام الاستفتاءات الشعبية، أي الديمقراطية المباشرة.
ثير هذا الموضوع بعد أن كثر أخذ القرارات المصيرية الكبرى، مثل المشاركة في حروب إقليمية، أو التطبيع مع عدو صهيوني تاريخي وجودي، أو تبني منظومة فكر اقتصادي يؤدي إلى إفقار وتهميش الملايين من الناس، أو التلاعب بالقوانين والحقوق الإنسانية والقيم الأخلاقية، أو التوقيع على معاهدات مشبوهة مع قوى استعمارية معروفة.. بعد أن كثر أخذ مثل تلك القرارات من دون أن تستشار، البرلمانات المنتخبة والمجالس الاستشارية من جهة، ومن دون أن تطرح تلك القرارات على الاستفتاءات الشعبية، لتكون تلك القرارات الكبرى معبرة عن كل المجتمع، وليس عن قلة في المجتمع. نحن نثير هذا الموضوع أيضاً من أجل أن يعي شباب وشابات الأمة إحدى صور الممارسات التي يمكن من خلالها وبها أن يتم المساس بالقيم والشروط التي تتأسس عليها الأنظمة الديمقراطية العادلة.
(القدس العربي)