كنت ضمن ستة من الأفاضل نلتقي من حين لآخر ما بين أواخر 2018 حتى مطلع 2021 لنتدارس الوضع الليبي؛ ننتج أفكارًا ونقترح حلولا. وكنا نطرح الأفكار التي نتوصل إليها -بعد نقاشات معمقة- في اللقاءات وورش العمل التي ندعى إليها، كما كنا نعرضها على البعثة وعلى قادة الرأي في البلاد، حتى إن أحد المشاركين في حوار ملتقى جنيف كان يقرأ بالنص من أفكار هذا الفريق خلال مداخلاته بالملتقى.
من بين تلك الأفكار التي توصلنا إليها، أن
ليبيا بحاجة إلى صفقة سياسية بين الفرقاء الرئيسيين، ولا يجب أن تجرى
الانتخابات إلا بعد التهيئة لها بعد حوار مجتمعي ينتج عنه ميثاق وطني ومقترح تشريعات لمصالحة وطنية جادة، ثم بعد ذلك يعاد صياغة الدستور وفق هذا الميثاق الوطني ومخرجات الحوار.
في حوار جنيف كان صوت بعض المطالبين بالانتخابات عاليا، وكانت وجهة نظر الفريق السُّباعي أن الانتخابات لن تؤدي إلى نتيجة وربما ستؤدي إلى حرب، إذا لم يتم تهيئة الأرضية المناسبة لها. ونجح أصحاب الصوت العالي في تمرير الانتخابات قبل التهيئة المطلوبة، ولكنهم كانوا أول من انقلب عليها، عندما صار فوز من لا يريدون فوزه، قاب قوسين أو أدنى. حتى الدول المتدخلة في الشأن الليبي والتي كانت تنادي بالانتخابات وتضغط من أجل إجرائها، عملت على إجهاضها في الأمتار الأخيرة لأنها أصبحت غير مضمونة النتائج أو لأنها ستؤدي إلى حرب.
لا يجب أن تجرى هذه الانتخابات إلا بعد مصالحة جادة تنزع الأحقاد من الصدور وتجبر الأضرر وتطال العقود السبعة الماضية
لا مناص من إجراء الانتخابات، فهي مطلب شعبي ودولي، ولكن الأرضية غير مهيئة لقبول الجميع بنتائجها. الانتخابات في هذه المرحلة مطلب عاطفي لجل الليبيين وفي الوقت ذاته يرفض هذا الشعب أن تكون نتيجتها الحرب أو المجيء برئيس إمعة. انطلقت الحرب الأهلية في العديد من الدول مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، وليبيا مرت بتجربة مماثلة بعض الشيء في سنة 2014.
هذا الشعب يعلم أن هناك إقطاعيات يرأسها أمراء مليشيات عسكريين وسياسيين، في الغرب والشرق والجنوب، ولن يرضوا بنتائج الانتخابات إلا إذا فازوا بها، أو فاز بها من يتحكمون فيه من وراء جدر. ولن يقبلوا فوز خصم كانوا في حرب معه منذ أشهر مضت، أو شخص في قلبه ملك مسلوب وفي صدره انتقام لقريب.
كما أن الدول المتنافسة في ليبيا لا ترغب إلا في انتخابات تأتي برئيس ضعيف يمكنها التحكم فيه من خلال مراكز القوة التي تسيطر على تلك الإقطاعيات، والدولة التي يخسر حليفها الانتخابات ستستخدم مراكز القوة التابعة لها للعرقلة أو لتحقيق مصالحها عبر الرئيس الإمعة.
لو أننا توقفنا قليلا عند الإرهاصات التي سبقت موعد انتخابات 24 ديسمبر 2021 التي أجهضت ولم تجر، لعلمنا أن نكث العهود والتراشق عبر القضاء، يُعد مقدمة لرفض نتائج الانتخابات وللتراشق بالسلاح الثقيل والخفيف إذا أجريت تلك الانتخابات دون تمهيد، حتى الدول المتدخلة في الشأن الليبي تخلت عن إجراء الانتخابات في موعدها لأنها أدركت مؤخرا أنها ستأتي بخيار غير مرغوب فيه، أو أنها ستكون -في أحسن الأحوال- مقدمة لحرب.
تمهيد الطريق وتهيئة الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات لا يتم إلا عبر حوار معمق ينتج عنه ميثاق وطني يجيب فيه الليبيون على جملة من الأسئلة الملحة، من أبرزها:
كيف سنعيش معاً في هذا الوطن؟
كيف نستثمر ثرواته المحدودة لرفاهية هذا الشعب الذي عانى الحرمان لأكثر من خمسة عقود؟
كيف سنعالج كل الأخطاء التي قامت بها السلطات المتنفذة طيلة ما يزيد عن سبعة عقود؟
ما هو نظام الحكم الذي نريد؟ وما النظام الإداري الأمثل للدولة الذي سنعالج به الشعور بالحرمان والتهميش؟
كيف نجمع بين المصالحة وعدم الإفلات من العقاب من خلال عدالة انتقالية فاعلة وناجزة؟
كيف نجبر أضرار هذه العقود -وهي كثيرة- دون استنزاف موارد الدولة؟
إلى غير هذا من الأسئلة الكثيرة التي تحتاج إلى أجوبة حاسمة.
ولهذا فإن الانتخابات التي نطمح لها يجب أن تسبقها صفقة سياسية تحيد مراكز القوة الرئيسية عن مسار إعادة بناء الدولة، لا يجب أن تجرى هذه الانتخابات إلا بعد مصالحة جادة تنزع الأحقاد من الصدور وتجبر الأضرر وتطال العقود السبعة الماضية، لا يجب أن تجرى إلا بعد إعادة صياغة مشروع دستور يتواءم مع الميثاق الوطني المنبثق عن الحوار المجتمعي المعمق، ثم عرضه على الشعب لينال شرعيته منه.
حينها سيقبل الجميع بنتائج هذه الانتخابات وحينها سيحمي الشعب هذا الدستور ممن سيحاولون الانقلاب عليه في قابل السنين. حينها ستكون هذه الانتخابات حقيقة ومعبرة عن تطلعات الشعب وآماله، لا الأوهام التي يروج لها البعض ممن سيقبلون بنتائج الانتخابات إذا فازوا بها وينقلبون عليها إذا خسروها أو يعملوا على إجهاضها قبل حدوثها.