نشر موقع "
أوريون 21" الفرنسي تقريرا، أشار فيه إلى
العقوبات التي أسهمت بتدمير الدولة
اللبنانية، والخطوات التي اتخذها
المجتمع الدولي لإنقاذ البلاد من
الإفلاس.
وأعربت لمياء المبيض، رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، عن استيائها من قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمجتمع الدولي -الذي تبنى بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020 وجهة نظر الشارع الشعبوي- بحرمان اللبنانيين من أي مساعدات؛ من أجل إجبار الطبقة السياسية على إجراء إصلاحات جذرية.
وفي أعقاب
الأزمة وانفجار مرفأ بيروت، أجّج السخط الشعبي مشاعر قوية مناهضة للدولة وشعورا بـ"حرب الكل ضد الكل". وتصر لمياء المبيض على أن "الدولة" لا ينبغي أن تكون مرآة للنظام، متسائلة عن الطرق التي يمكنها مساعدة الدولة دون ضخّ الأموال في جيوب قادة النظام الذين ينتمون لطبقة سياسية غير كفؤة.
وذكر الموقع أن لبنان محروم بالفعل من المساعدات الدولية البالغة 11.6 مليار دولار التي وُعد بها في 2018 مقابل إصلاحات معمقة ظلت حبرا على ورق بسبب تقاعس القادة اللبنانيين. كما تعهّد صندوق النقد الدولي بتقديم مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار في سنة 2022 في حالة وجود برنامج إصلاحات. وقد تفاقم الوضع أكثر في ظل تفشي جائحة كوفيد-19 في البلاد، التي تستضيف أكثر من 1.2 مليون لاجئ سوري.
وترى المبيض أن دعم الجهات المانحة للمنظمات غير الحكومية وحرمان المؤسسات الحكومية المدنية من جميع أشكال الدعم فاقم الوضع. وهو ما يخدم مصالح الطبقة السياسية التي استمرت في إثراء نفسها على ظهر الدولة من خلال سحب الأموال من المناقصات العامة. وقد أظهر تحليل أجراه مجلس الإنماء والإعمار أن 10 شركات فقط فازت بنسبة 60 بالمائة من المناقصات الحكومية التي تعادل قيمتها 1.9 مليار دولار ما بين 2008 و2018. وأغلب هذه الشركات يديرها أقارب الوزراء وشخصيات سياسية أخرى فرضت عليهم وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات.
ونقل الموقع عن لمياء المبيض أنه مع تدهور المؤسسات العامة، والمغادرة الجماعية للبلاد أو تغيب الموظفين المدنيين الأكفاء غير القادرين على العيش بكرامة بأجور الفقر، أغلقت بعض الخدمات، واختفت الضوابط الضريبية أو الجمركية تقريبًا. وتستغل المافيا المحلية هذا الوضع لاستيراد منتجات أصلية أو مقلدة دون دفع ضرائب، أو لغسيل الأموال، وهذا ما يعني حرمان الدولة من موارد مهمة.
فقر المدارس ومرافق الصحة العامة
أشار الموقع إلى أن البؤس الذي يغرق فيه اللبنانيون، الذين يولون أهمية كبيرة لتعليم أبنائهم بالمدارس الخاصة، يدفعهم إلى التوجه إلى المدارس العامة. وأشارت المبيض إلى أن المشكلة تكمن في أن الدولة لم تعد تملك الوسائل لتمويلها وأنها تضطر أحيانًا إلى إغلاق المؤسسات التعليمية. ولم يعد اللبنانيون قادرين على إرسال أطفالهم إلى مدارس بعيدة بسبب عدم وجود شبكة نقل عام فعالة والتكلفة الباهظة للنقل الخاص. ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن منظمة اليونيسف، فإن واحدا من كل خمسة أطفال لبنانيين ترك مقاعد المدرسة، ناهيك عن أن ما يقارب 40 بالمائة من الأسر خفّضت إنفاقها على التعليم.
وأضاف الموقع أن قطاع الصحة العامة ليس في مأمن من هذا الوضع المزري حيث أوضحت المبيض أن مستشفى رفيق الحريري العام كان "الوحيد الذي استجاب بسرعة لفيروس كوفيد-19 حتى قبل وصول الفيروس إلى لبنان في أوائل سنة 2020". ويتعامل المستشفى نفسه مع وباء الكوليرا الأخير الذي ظهر بعد انقطاع بعض محطات معالجة مياه الصرف الصحي عن العمل بسبب نقص الموارد العامة وبعد مغادرة المهندسين والفنيين. وتؤكد المبيض أن "المنظمات غير الحكومية لا تستطيع حل هذا النوع من المشاكل، وهي مسؤولية الدولة ومؤسساتها". ولم تدرك الجهات المانحة حدود النهج الذي تتبعه ولم تستطع إعادة مواءمة أعمالها مع أهداف التنمية المستدامة إلا بعد انهيار قطاع الخدمات العامة.
الانهيار في الإنفاق العام
ترى رئيسة معهد المالية أن الإدارات والمؤسسات العامة تعمل "بأقل من نسبة 10 بالمائة من موازنة 2020 بسبب الانخفاض الخطير في قيمة الليرة". وتجدر الإشارة إلى أن موازنة 2021 لم تتم المصادقة عليها أبدا وأن البرلمان لم يصوت إلا على موازنة 2022 في شهر أيلول/ سبتمبر 2022 مع التنفيذ بعد شهر.
وذكر الموقع أنه من السخيف الحديث عن القوى العاملة في الخدمة العمومية اللبنانية في ظل موجات المغادرة الطوعية غالبا إلى خارج الوطن والاستقالات والغيابات. وحسب مكتب الإحصاء اللبناني، مثّلت القوى العاملة 16 بالمائة من السكان النشطين قبل الأزمة الحالية وتفشي الوباء، دون أخذ الجيش وقوات الأمن والمسؤولين البلديين بعين الاعتبار.
وتفاقمت الهجرة سنة 2015 بمغادرة الموظفين المؤهلين الذين لم يروا في لبنان أي أمل لبناء مستقبل وطغت عليهم حالة من اليأس بسبب الطائفية والفساد والأفق المسدود أمام أي تقدم مهني. وقد تضاعفت حالات المغادرة مع المأزق السياسي والوباء مما أفرغ الخدمة العمومية من أدمغتها.
ونقل الموقع عن المبيض أن الخدمة العمومية هي "التي يحتاجها الأكثر حرمانا من الشعب بشكل عاجل، ويجب إنقاذها بشكل مطلق من أجل الاستجابة لزيادة بأكثر من 40 بالمائة في مطالب السكان في جميع القطاعات تقريبا أي الصحة والتعليم والكهرباء والنفايات المنزلية والطرق وما إلى ذلك".
نقطة اللاعودة
وأشار الموقع إلى أن التضخم يؤثّر على الحياة اليومية للسكان بدءا بحياة موظفي الخدمة المدنية الذين كان متوسط أجورهم قبل بضع سنوات يعادل حوالي 1500 دولار، إلا أنه بات يتقاضى اليوم ما يعادل 60 دولارا حسب سعر صرف الليرة. ولا يعزى هذا الوضع إلى إعراض الطبقة السياسية عن إحداث الإصلاحات المطلوبة وإنما أيضا إلى الإجراءات القليلة التي اتخذتها منذ عدة سنوات والتي حرمت عددا من المؤسسات العامة اللبنانية من التمويل الضروري لخدمة السكان.
راقب معهد المالية عن كثب إصلاح نظام المشتريات العامة الذي أدى إلى صياغة قانون جديد، وهو إصلاح قد يفشل مرة أخرى بسبب نقص الدعم الذي تعاني منه المؤسسات التي تنفذه. ومن جهتها، أكدّت لمياء المبيض أن معظم السياسيين وأعوانهم استفادوا من غرق الدولة التي لم تعد قادرة على السيطرة على فسادهم وتجاوزاتهم، بينما وحدهم المواطنون اللبنانيون من يدفعون ثمن تدهور الخدمات العمومية وانهيارها. كانت العواقب طويلة المدى وخيمة ويمكن رؤيتها في مؤشرات التنمية البشرية التي تراجعت إلى ما كانت عليه في التسعينيات.
وفي الختام، شددت لمياء المبيض على أهمية إيجاد الأدوات المالية بشكل عاجل وحتى تكييفها لدعم الدولة واستهداف المؤسسات الرئيسية التي يعتمد عليها تعافي لبنان وإعادة إعماره، وتحديد القوى المضادة التي يقع على عاتقها المهمة الثقيلة المتمثلة في ضمان اتساق الخدمة العمومية والحفاظ على الصالح العام واستشراف المستقبل.